شكلت آراء الغنوشي وعدم تحفظه على استخدام الديمقراطية كمفرد ومصطلح إلى مواقفه المبكرة من مسألة الديمقراطية وتداول السلطة صدمات ايديولوجية في حياة الحركات الإسلامية العقائدية، فهو أعلن منذ العام 1981 أنه لو اختارت الجماهير «الحزب الشيوعي فسنعتبر أن حكم الحزب الشيوعي قانوني». (حوارات، ص 67، 79).
من هذه النقاط المفارقة شق الغنوشي طريقه الخاص منذ مطلع الثمانينات واشتغل كثيرا على تطوير أفكاره عن «حقوق المواطنة - حقوق غير المسلم في المجتمع الإسلامي» (إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1989 - 1993). و «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» (إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1994)، وصولا إلى أخطر وثيقة صدرت عن حركة إسلامية عربية معاصرة تقيم فيها تجربتها الخاصة وتنتقد نفسها مكرسة بذلك مدرسة جديدة في النقد الذاتي وهي ممارسة غير مسبوقة في الأحزاب الإسلامية.
لا تقل الوثيقة التي صدرت في الذكرى الخامسة عشرة لتأسيس حركة النهضة وحملت عنوان «دروس الماضي وإشكالات الحاضر وتطلعات المستقبل» أهمية عن الوثائق الثلاث التي صدرت عن حركة الإخوان في مصر بل إنها تضاهيها من ناحية الجرأة في النقد الذاتي والمكاشفة أمام الآخر من سلطة أو خصوم سياسيين. وبحسب الغنوشي «إن السياسة هي عالم المعقول، وليست عالم الغيبيات، هي عالم المعقولات، هي العالم الموضوعي» (حوارات، ص90).
انطلاقا من الفهم المذكور لعالم السياسة أقدمت حركة النهضة في مؤتمرها الأخير على إصدار تلك الوثيقة «الانقلابية» ووزعتها في كتيب صدر في يونيو/ حزيران 1996 تحدثت فيه عن مبررات وجودها وتجربتها المرة وسياساتها الصحيحة والخاطئة وأهدافها المستقبلية. (حزب النهضة التونسي، دروس الماضي وإشكالات الحاضر وتطلعات المستقبل، يونيو/ حزيران 1996).
تشمل الوثيقة على تقديم صغير و76 فقرة و8 أهداف متواضعة، واحتوى الفصل الأول منها على استخلاصات تقويمية ضمت 27 فقرة، وضم الفصل الثاني 34 فقرة تناولت الخلاصات التحليلية، وضم الفصل الثالث 16 فقرة وتحدث عن استشراف المستقبل، وأخيرا جاءت الأهداف وهي ورقة واحدة من الوثيقة نصت على حقوق الإنسان وضمان حرياته الأساسية وترسيخ هوية البلاد (تونس) العربية والإسلامية وسن عفو تشريعي عام وإخلاء السجون من المعارضين السياسيين وتعاضد قوى المعارضة من أجل تحقيق انفراج في البلاد يرفع المظالم ويرد الحقوق والحريات واحترام حرية الصحافة والتعبير والاجتماع ومراجعة القوانين الجائرة وضمان حق التدين وإلغاء المناشير التي تمنع ارتداء الحجاب وإقامة الصلاة في المؤسسات والتدريس في المساجد، ورفع وصاية الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية ودعم المسار التصالحي بدل التناحر والتنابذ والقطيعة.
أهم ما تحتويه الوثيقة تلك الفقرات التي جاءت في الفصل الأول وفيها إعادة قراءة التجربة واستخلاص الدروس ونقد الأخطاء وبعض السياسات. ويرد في الفصل محاولة تحليل أسباب تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي (حزب النهضة لاحقا) وتربط الأمر بالتحديث المتوحش وتغول الدولة ومصادرتها للمجتمع وسيطرتها الشمولية والكلية على مؤسسات الحياة المدنية والأهلية وترى المسألة رد فعل على استبداد الدولة وهيمنتها المطلقة. «تأسست حركتنا بعد خمس عشرة سنة من استقلال البلاد، بعدما تمكنت النخبة التغريبية الحاكمة من تحطيم معظم البنى التحتية للمجتمع والدولة، مثل: إلغاء الأوقاف والمحاكم الشرعية والتعليم الزيتوني وتفكيك العلاقات الأسرية والعشائرية، وتبلور معالم دولة سلطوية تلغي دور المجتمع وثقافته الأصلية ومؤسساته المدنية ما أحدث بالتدرج اختلال توازن بين الدولة/الحزب/ الفرد من جهة والمجتمع من جهة أخرى». ولا ترى الوثيقة أن تأسيس الحركة هي انقلاب على جهود الآخرين من أبناء البلد بل هي امتداد «لجهود الإصلاح والتجديد الفكري على صعيد البلاد والعالم الإسلامي ولنضال الحركة الوطنية من أجل التحرر السياسي والثقافي والاقتصادي»، وأكدت الوثيقة أن أهداف الحركة كانت ولاتزال تركز على «أولوية المهمة الفكرية والتربوية والثقافية» وإذا اهتمت بالسياسة فإن الأمر مرده إلى «هيمنة الدولة على كل الفضاءات»، وأعادت الوثيقة تأكيد منهج الحركة التغييري السلمي ونبذ العنف، وانتقدت تصرفاتها الخاطئة في مواجهتي 1987 و1991 واعتبرتهما عملية استدراج لها مخالفة فيهما استراتيجيتها السابقة والتقليدية.
ورأت أن استخدامها، لمواجهة «مشروع الاستئصال»، العمل السري بهدف «استجماع شروط الاستعصاء» وتوفير المناعة الداخلية والتحصن لمواجهة ضربة خارجية، من الأخطاء التي ارتكبتها حتى لو كانت مضطرة لها. وأشارت إلى سلبيات علاقاتها بالمعارضة الأخرى إذ إنها «لم توفق في بناء قاعدة ائتلافية متينة مع النخبة وبقية أطراف المعارضة الوطنية». وانتقدت الحركة مراهنتها على نجاح التجربة الديمقراطية في الجزائر التي انطلقت في العام 1988 من «دون تقدير لاحتمالات الانتكاسة».
وخلصت الوثيقة إلى أخطر موقف عندما حملت السلطة نفسها ثم المعارضة مسئولية «التجربة المريرة التي لاتزال تعانيها البلاد منذ العام 1990» ودعت إلى وقف «التشابك وهدر الطاقات»، وأقرت فكرة «التنازل المتبادل وحتى من طرف واحد» وغلبت الوفاق كمصلحة وطنية عليا وانتهت إلى إقرار مبدأ التدرج بانفتاح النخبة التونسية على بعضها ودفع السلطة إلى الانفتاح «من أجل الوصول إلى المصالحة الوطنية الشاملة». (ص 12، 13، 18، 19، 20).
تدين الوثيقة حركات العنف التي أساءت للإسلام وترفض ممارسات حركات التطرف والعنف العشوائي في الجزائر وتنتقد النظام التونسي الحالي إذ إنه «بوليسي فردي مركزي يتركز حول شخص رئيس الدولة». (حزب النهضة، فقرة 18 ص228). وتنتهي إلى إثبات أفكارها الاجتماعية والثقافية وهي: أولا، احترام حق الأغلبية في الحكم والأقلية في المعارضة عبر مؤسسات منتخبة تنبثق عنها الشرعية والتداول على السلطة.
ثانيا، أولوية الثقافي والاجتماعي على السياسي، وتعني بالسياسي هو أن «يأخذ محمولات ومضامين فكرية جديدة بحيث يكون خادما للمهمة التربوية والثقافية بدرجة أولى».
ثالثا، تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة داخليا وعلى الصعيدين العربي والإسلامي و «على قاعدة المشاركة والتعايش بديلا عن الإقصاء والتنافي أو حتى هيمنة الأغلبية»، والدعوة إلى «التراضي العام والوفاق واعتبار دور كل قوة ليس بحسب عددها فقط وإنما بحسب قوة تأثيرها ونفوذها في الواقع وحاجة التوازن لها أساسا» انطلاقا من فكرة التنازل الطوعي لتمثيل الأقلية السياسية.
رابعا، دعم سلطة المجتمع واستقلالية هياكله وقوامته على الدولة ومواجهة نزوعات التفتت الطائفي أو المذهبي أو العرقي. (ص 38، 39، 40).
تمثل أفكار الشيخ الغنوشي ومواقف حزب النهضة التونسي خطوة مهمة في سياق إدراك الفترة الانتقالية التي تمر بها المنطقة العربية - الإسلامية. فالحديث عن مجتمع التراضي والديمقراطية التوافقية يشكل بداية طيبة للتسوية التاريخية التي يجب أن تقوم لتنظيم حياة سياسية سلمية تقلل من مخاوف النخبة العسكرية المستبدة وتوسع من حريات المؤسسات المدنية وحقوق الهيئات الأهلية. فالتحديث القسري الذي بدأ في العهدين الفرنسي والبورقيبي أنتج شكلين اجتماعيين لابد من تعايشهما لصوغ تصور تاريخي مركب يمزج بين وعيين متناقضين، لابد من تفاهمهما لأنه لا سبيل لأحد منهما في استئصال الآخر.
نداءات الشيخ ذهبت حتى الآن أدراج الريح فهو كمن يطرق على باب حديد ولا يوجد الآخر المستعد لفتح باب الحوار، فالدولة (النخبة) في بلاده أوغلت في سياستها القمعية وأخذت تطال أقرب المقربين منها وصولا إلى الجهات التي ساهمت في صنعها وتبرير نهجها الاستئصالي، بينما ردت جماعات الجهاد والتنظيمات الإسلامية على أفكار الغنوشي بالرفض وسخرت من مراهناته واتهمته بالعلمانية والليبرالية. ففي مقال كتبه (أبوإنصاف) عرض فيه أوضاع تونس تناول أفكار الغنوشي وسياسة النهضة وذكر أنها حركة ديمقراطية وليست إسلامية إذ إنها «سافرت بعيدا وأبعدت النجعة وأوغلت في الخطاب السياسي والعلماني والمنهزم في آن واحد». (نشرة الفجر، السنة الثانية، العدد 16، 1996).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2065 - الخميس 01 مايو 2008م الموافق 24 ربيع الثاني 1429هـ