إذا حالفك الحظ وتجولت في شوارع ومتاجر إمارة دبي تصاب بالذهول من تنوع الجنسيات التي تصادفها وتحسد هذه الإمارة الجذابة على ما هي عليه من ازدهار وتألق وحركة اقتصادية غير مسبوقة بالخليج... وبقدر ما ينتابك هذا الشعور بالانبهار تسأل نفسك أو المحيطين بك أين المواطن الإماراتي؟
لم تعثر عليه، لم نره إلا خلسة، أي بين كل عشرة أجانب تسقط عينك على صاحب الغترة البيضاء والدشداشة المحلاّه «بالفروخة» وهي مجموعة من الخيوط (الهدوب) تتدلى من الرقبة حتى الصدر وهو ما يميز زي ابن الإمارات عن غيره من أبناء الخليج.
الأرقام مخيفة ومن يفتح ملفاتها كمن يصرخ بصوته من أعلى الوادي ولا يسمع غير الصدى بصوته...
القائد العام لشرطة دبي الفريق ضاحي خلفان بن تميم وقف وبدشداشته التي لا يظهر فيها إلا نادرا وأمام جمع من الحضور تحت عنوان مؤتمر «البحث عن الهوية الوطنية» ليخاطب جمهور المواطنين وبأسلوبه المثير والذي يضفي أجواء جدلية على المناسبات التي يشارك بها: «تزوجوا... تزوجوا... تزوجوا» فلم يعد أمامكم سوى المزيد من الإنجاب فهو الكفيل بتعديل الخلل السكاني الذي يعاني منه بلدكم...
واستشهد كعادته بمثل موزون على وزن السجع «قلّة في الإنجاب» يعني «تكاثر بالشواب» أي «الشبَّاب» حصيلته «عمالة تخدم الأرباب» وهو قول يحاكي العامة من الناس ويحثهم على فعل المزيد من الإنجاب.
أحدث الأرقام تشير إلى أن هناك 866 ألف مواطن من أصل 5 ملايين و631 ألف نسمة إجمالي عدد السكان أي بنسبة 15 في المئة وهي أدنى نسبة تشهدها الدولة منذ استقلالها العام 1971... وبالعربي الفصيح بات الإماراتيون أقلية في دولتهم فالهنود وصل عددهم إلى حدود 1.3 مليون نسمة فقط حتى لو قرَّر الإماراتيون تعدد الزوجات وزيادة الإنجاب فلن يكون بمقدورهم مجاراة الجالية الهندية وحدها، وهو ما يضع «حل الفريق خلفان» في علم الغيب ويعيد فتح الأعين على التجارب المماثلة وفي كل من قطر والكويت على سبيل المثال ويتوقف أمام «الحلول الإنجابية» التي سبقتها إليها الكويت... فالهنود بالإمارات تقريبا والمقارنة هنا تذهب فقط للأرقام دون سواها، يشبهون حالة الجالية الفلسطينية بالكويت قبل 1990 والبدون جنسية الذين وصل عددهم تقريبا إلى نصف مليون نسمة! في حين وصل عدد الفلسطينيين إلى 400 ألف نسمة وأكثر مقابل نحو 600 إلى 700 ألف مواطن كويتي وهي حالة خلقت هاجسا مقلقا وهما متبوعا بالسؤال التقليدي كيف نعيد تصحيح الخلل السكاني بين الفلسطينيين والوافدين من جهة وبين الشعب الكويتي من جهة أخرى... وبقيت الكويت ولسنوات مهمومة بالتركيبة السكانية وبالأخطار الناتجة عنها والمشكلات الأمنية والأخلاقية التي تترتب عليها.
وفي هذا السياق تقدمت الكثير من الجهات المعنية والمنظمات الدولية باقتراحات وحلول من شأنها معالجة الخلل، ومن بينها أصوات نادت ليس فقط بزيادة الإنجاب وتشجيع المواطنين على تعدد الزوجات وتوفير الدعم المالي لهم بل وصل الأمر إلى المطالبة بالإقدام على «خصي» الوافدين وأصحاب الجاليات المشهورة بالتكاثر السكاني! وهو اقتراح لاقى استهجانا واستنكارا لما يحويه من تحقير واستخفاف واستهتار بآدمية البشر أيا كانت إنتماءاتهم وجنسياتهم.
بقي الوضع على ما هو عليه وفي كل يوم كانت تظهر فيه إحصاءات جديدة يقلب العداد، زيادة بعدد الوافدين وتناقص بعدد الكويتيين، فلا الإنجاب نفع ولا «الخصي» حصل على رغم جميع المحاولات التي تم تجريبها، كالالتزام بحصص محددة للجاليات، أو بوقف إعطاء الإقامات للقادمين الجدد، أو بمنع تعيين الوافدين بالوظائف الحكومية أو بفرض رسوم على الخدمات التي تقدم إليهم من قبل الحكومة... إلى أن وقع الغزو واستبشروا خيرا لأن الظروف القاهرة والمأسوية التي حصلت أفرغت الكويت من الكتلة البشرية الأكبر وهي الفلسطينيون وجزء من البدون وقيل بعد التحرير إن «الحرب» من حيث لا يدرون أعادت تصحيح الخلل السكاني وأراحت الكويت من همّ كبير لم يكن لديهم خيارات يلجأون إليها سوى القبول بالأمر الواقع أو الموافقة ضمنيا على «التوطين السياسي» الذي كان يتعامل مع الكويت على اعتبار أنها أحد أهم مراكز التجمعات الكبيرة للجاليات الفلسطينية بالخليج...
عادت الكويت حرة بعد العام 1991 وعادت مشكلة التركيبة السكانية إلى المربع الأول، فالوهم الذي كان قائما قبل الغزو لم يكن يعكس حقيقة المشكلة وهي أن التاثير الفلسطيني وقلة الإنجاب عند الشعب الكويتي هي السبب فالصورة أظهرت من جديد بأن الخلل مازال قائما وأن الشعب الكويتي مازال «أقلية» ضمن الوافدين وإن زاد بنسب بسيطة فالخريطة السكانية العام 2008 تقول إن هناك مليون كويتي مقابل أكثر من مليونين من الوافدين، فالفلسطينيون استبدلوا بجاليات أخرى من آسيا وحصص بعض الجنسيات العربية وكأنك «يا بوزيد ما غزيت»...
خلاصة الأمر أن معالجة الخلل بالتركيبة السكانية يذهب إلى الأمكنة الخطأ أو لنقل غير الفعالة، فالموضوع يحتاج إلى الوقوف عند مسبباته الأولية وليس إلى نتائجه، فهناك جوانب اقتصادية بالدرجة الأولى متمثلة بالثروة النفطية التي غيَّرت الكثير من المفاهيم وأحدثت انقلابا حقيقيا على مستوى الناس والمجتمع والدولة وجوانب سياسية تحتاج إلى قرارات جريئة ليس بالمتاح الإقدام عليها ومن الصعب أن تتم إذا لم تتلازم كلها مع بعض وفي ظروف مؤاتية لم تستحق بعد ولم يأتِ أوانها.
ثقافة زيادة النسل باتت في عنق الزجاجة، ورفع معدل الخصوبة يواجه تحديات الإكثار من قبل الوافدين.
فهل تشهد دول الخليج «انتفاضة» بالإنجاب وتعيد تصحيح المعادلة أم تبقى في إطار التمنيات في الوقت الذي يسجل فيه شباك الدخول إلى المطارات الخليجية مزيدا من المهاجرين والمستثمرين والباحثين عن مصدر رزق يقيهم صعاب الأيام في بلدانهم.
العدد 2064 - الأربعاء 30 أبريل 2008م الموافق 23 ربيع الثاني 1429هـ