«تشجعنا نحن الفتيات على تطوير عقولنا»! عبارة لافتة دونتها ناهيد رشلان، في الفصل الثلاثين من سيرتها الذاتية «بنات إيران»، قالت: «ذات يوم كنت أقرأ إحدى النشرات الإخبارية التي ناولني إياها شاب في ساحة هارفارد. تفحصت صورتي شخصين أعدما، فغار قلبي. كان أحدهما ابن أخي عزت سادات، المرأة اللطيفة التي كانت مستأجرة عند مريم عندما كنت طفلة. وبعد عدة أسابيع قرأت في نشرة مماثلة أن معلمة الإنشاء التي أحببتها، السيدة سليماني، قتلت في حادث تصادم مع شاحنة فيما كانت تقود سيارتها متوجهة لزيارة أمها. ذكرت المقالة أن الشهود رأوا سائق الشاحنة ينعطف نحو سيارة السيدة سليماني بعدائية ويخرجها عن الطريق واستنتجت المقالة أن السائق عضو في «السافاك». تذكرت وجهها الحساس وصوتها المتعاطف عندما تتحدث معنا في الصف، وتشجعنا نحن الفتيات على تطوير عقولنا»!
تراكم خبرات وخلاصة رؤى
ترى، أثمة ما يدلل في أعلاه على قيمة نهائية للنص؟!
الإجابة تحتمل الكثير من الآراء. بالنسبة لكاتبة السطور، القيمة تنبع من كون رشلان كتبت سيرتها بعد بلوغها مرحلة من النضج وتراكم التجارب، أضف إليها محصلتها من الرؤى والخبرات الحياتية النابعة من نشاطها الإبداعي، ما جعل لنصها قيمة حقيقة توضحت في أبعاد عدة، برزت في الجانب الإبداعي للسرد ذاته - أي الحبكة - التي عبرت فيها عن إشكالية علاقتها مع المجتمع الذكوري في ظل نظام الشاه ومن ثم السلطات الدينية والاجتماعية المتشددة في بلد شرقي محكوم بمنظومة متشابكة ومعقدة من العادات والتقاليد والأعراف الصارمة بكل ما يستتبعه من قهر واستلاب تعيشه النسوة.
قيمة النص أيضا، ليس لأنه مكتنز بخفايا وأسرار تتعدد أوجه تأويلاتها، ولا لكونه نصا مسالما وساكنا نائما يفسح المجال لإطلاق عنان الخيالات عند تفكيك عناصره وتحليلها، بقدر ما كونه نصا واقعيا معاشا في تفاعل مكوناته وشخصياته في حركتها وتشابكها مع أدوات النص الأخرى المترافقة في عمقها الزمني والمكاني. لاشك في أن القارئ الناقد بمواجهة عمل احترافي يتوافر على عناصر السرد التشويقي الذي يشده بتودد ويدخله في مسارات تجارب المؤلفة التي بينت إمكانات وجودها كإنسان وضمير حي تشكل بإرادة حرة وحقق الإنجازات على مستوى الذات واجتاز التحديات والصعاب من دون تجرد أو اغتراب أو انسلاخ عن المجتمع. أثبتت أن أمام المرأة في مجتمعاتنا خيارات عدة مفتوحة على عالم اليوم خيارات تتطلب المعرفة والإرادة والاستقلالية، كما أنها وبمعاناتها - أي المرأة - نتاج للتنشئة الاجتماعية المتأسسة على الفكر والثقافة والايديولوجيا وما تجسده مرآتها من انعكاس على المرأة ذاتها وشخصيتها ومواقفها!
هواجس
ورغبة في التعبير
النص لا يفرض نفسه عنوة على القارئ، بل ثمة امتلاء في زواياه بالهواجس والرغبة في التعبير والمجاهرة بنقد مواقف نظام الشاه تجاه المرأة ككيان ومظاهر ازدواجية علاقته مع التيارات الدينية وأفعال «السافاك» وما سببه من أزمات أدت إلى ما أدت إليه بسبب حجم فساد السلطة الحاكمة وسوء إدارتها للدولة. النص برمته يتسلل إلى قارئه من بوابة متعة القراءة وإثارة رغبة الفضول للتلصص على مجريات حياة المؤلفة. ثمة زيف وادعاءات لمجتمعاتنا يمكن تبينها في سياق تقليب بنية النص وإعادة تركيب القضايا الثانوية والجوهرية عند مقاربة الأقوال بالممارسات الفعلية، ولاسيما بحسب توطئة الناشر، أنه يمثل «سيرة ذاتية ترفع النقاب عن الأسرة الإيرانية وعن التعقيدات التي تترعرع فيها النساء في المجتمعات الذكورية، فضلا عن حزن المؤلفة الشديد الذي منعها على مر السنين من سرد سيرتها الذاتية المترافقة والمختلفة عن سيرة حياة شقيقتها الحميمة «باري»، ففي عمر مراهقتهما رفضتا التقيد بالأعراف السائدة وحلمتا بخوض غمار الأدب والمسرح، فكانتا تقرآن سرا الكتب الممنوعة وتمثلان قصصا رومانسية، أجبرت «باري» على الزواج من رجل ثري وقاس جعل منها أسيرة منزلها، بينما تفادت «ناهيد» الاقتران بشخص يختاره أهلها، واستطاعت بجهدها وإصرارها من متابعة دراستها في أميركا. اشتهر اسم «ناهيد» في مجال الأدب في الولايات المتحدة وتحررت من قيود عائلتها، بينما تلاشت أحلام «باري» في ظل زيجتين قضتا على آمالها وطموحاتها. حين تلقت «ناهيد» خبر وفاة «باري»، عادت إلى إيران في زمن الثورة الإسلامية. في سياق السرد تقارب ناهيد الماضي المتجسد في حكم الشاه مع الحاضر المتمثل فيما بعد الثورة، وما حدث من تبدلات على الشخوص والمواقف والاتجاهات وأسلوب المعيشة والعلاقات، ذلك لم يتم بصورة تقليدية تعكس تصورات جاهزة تخطئ الجديد أو تعلي من شأن القديم أو العكس، بقدر ما توضح تأصل الحاضر في الماضي ومنذ أيام الشاه الذي استحكمت علاقته مع الأحزاب السياسية والتيارات الدينية، الصراعات والاضطرابات الدموية، إنها تضيء كل ذلك عبر مظاهر الحياة الاجتماعية لخالتها ووالدتها ووالدها وشقيقاتها بكل ما يشوبها من حزن وعلاقة قربى وغضب وتسامح وأمل.
الترجمة فنا إبداعيا
على رغم تميز النص بجوانب السرد والتشويق، فإنه ومن الناحية التقنية تنقصه جودة الترجمة من لغة كتابته الأصلية (الإنجليزية) إلى اللغة العربية، فإذا أخُذ في الاعتبار أن عملية الترجمة بحد ذاتها فن إبداعي يقوم به الكثير من المفكرين والأدباء، وأن الترجمة كما يفيد المغربي عبدالسلام العالي تعني القدرة على التحويل بما يضمن للنص حياة، وما يشكل له من تاريخ وبقاء ونمو وتكاثر... «مقالة أليست الترجمة في حد ذاتها إبداعا» (الحياة 20 أبريل/ نيسان 2008)، فإنه يمكن القول إن نص «رشلان» لا يتوافر على عنصر المهارة الاحترافية في تجسيد الجانب الإبداعي للترجمة، ومع ذلك فإن قدرة المؤلفة على استثارة القارئ وتشويقه كانت عالية ودافعة له لاستكمال القراءة والاستمتاع بمضامين النص، وخصوصا أنه واقعي ويشتمل على حقائق، كما يخفي بين ثناياه توصيفا للمشاعر الدفينة التي بحسب الظن لم يستطع المترجم استلهامها والتعبير عنها.
ناهيد هدية الأم للخالة
الروائية الأميركية الإيرانية تعيش هاجس نساء الشرق على رغم اغترابها، هذا ما نتلمسه في أفكارها ومنابتها ونشأتها في محيط أسرتها التي تكونت من أب متعلم يعمل قاضيا ويكبر والدتها بسنوات، ومن خلال معالجتها للنواحي الإنسانية وإلقاء الضوء على ظاهرة طالما انتشرت بهدوء في مجتمعاتنا الشرقية بين الأسر وسببت تشوها وإرباكا في مشاعر الأطفال تجاه ذويهم منذ الصغر، فالروائية، كما نعلم من النص قد عاشت هذه التجربة والإرباك لكونها الابنة الهدية التي قدمتها أمها إلى شقيقتها «خالة ناهيد»، التي لم تكن تحمل عندما كانت متزوجة ورجت والدتها «محترم» أن تتيح لها تبني أحد أطفالها! إنها تخوض في غمار علاقتها وأخواتها وأمها وخالاتها مع الرجال (الأب والزوج والحبيب والابن والأخ والصديق)، فهناك ما هو مكبوت وممنوع الحديث عنه الذي تعرج عليه بذكاء المحترف وفطنة الذي يعي ما يود التعبير عنه من دون تنميق أو استثارة، لذلك بدت احترازية مدركة لطريق الألغام السائد في المجتمعات الشرقية، فلم يكن الوصول إلى مبتغاها من خلال إطلاق الأحكام المطلقة، بقدر ما تشاركت مع القارئ في تبيان مظاهر الهيمنة والقسوة والتسلط والقهر والاستلاب من خلال السلوكيات التي تؤدي في الختام إلى الخضوع والإذلال، بهذا أفسحت المزاريب لكيفية التصدي لهذا الواقع ومناهضته.
النساء في قمقم هويتين متنافرتين
خلاصة الرأي: ناهيد رشلان تفصح عن قدرة فائقة في بسط الخيارات وتحريك الأفكار وبث الحياة في أرجائها، فضلا عن ممارسة النقد عبر الشخوص ومعاناتهم مع ممارسات المجتمع الإيراني وقيمه الضابطة تجاه المرأة، سواء أكان ذلك في زمن الشاه أو في زمن الثورة حيث يعاد إنتاج المعاناة بسبب التوجس والتسلط والهيمنة والوقوع في قمقم هويتين ايديولوجيتين متناقضتين متنافرتين. وعليه، يبقى جوهر النص النهائي لكون كاتبته شاهدة عصرية على معاناة النساء في مراحل زمنية من تاريخ إيران التي سادها ولايزال التوتر وتشابك الأحداث والواقع المقبل على مختلف الاحتمالات وانعكاساتها على المرأة كإنسان.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 2062 - الإثنين 28 أبريل 2008م الموافق 21 ربيع الثاني 1429هـ