العدد 2061 - الأحد 27 أبريل 2008م الموافق 20 ربيع الثاني 1429هـ

لا تُطلق النار فاليد على الطاولة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

بعث آمر الزورق الإيراني التابع للحرس الثوري بخطاب عبر اللاسلكي باللغة الإنجليزية هذا نصّه «بارجة الحرب التابعة للتحالف رقم 73: هذه دورية إيرانية» فردّ الضابط الأميركي: «هذه بارجة حربية تابعة للتحالف رقم 73 نحن نتحرك في المياه الدولية» فردّ الضابط الإيراني: «أطلب منكم تحديد اتجاهكم وسرعتكم» ثم يتفقان على تغيير موجة الراديو والمرور من القناة 16 إلى القناة 11. حينها سجّلت الزوارق الإيرانية هذا المقطع المرئي: البارجة الحربية رقم 73 وهي (بورت رويل سي.جي 73) وبارجتين أخريين هما (هوبر) و(انغراهم) مع تحليق مروحية إيرانية فوق البوارج الأميركية. وانتهى المشهد الذي جرى في يناير/ كانون الثاني الماضي.

هذا التماس بين قوتين لا يجمعهما سوى العداء منذ ثلاثين عاما لا يُعتبر مؤشرا خطيرا. وهو أن تصاعد فقد يكون في أسوأ حالاته كحادثة البحّارة البريطانيين الثلاثة عشر في إبريل/ نيسان 2007، لكنه بالتأكيد لن يكون كحرب السفن التي كانت تدور في مياه الخليج بين البحريتين الإيرانية والأميركية إبّان حرب الخليج الأولى.

الإيرانيون يؤسّسون لمنطق جديد في معادلة الصراع بينهم وبين الأميركيين في المنطقة. فهم يقدّمون أنفسهم على أنهم «خصم حاضر» له حساب وليس «خصما متواريا». فالسياسة لديهم تسمح بين الفينة والأخرى أنْ «يُجازفوا» مادامت النتائج الحتمية تصب في مصلحة معادلة «الخصم الحاضر».

يضيرهم شيء واحد فقط؛ وهو أنْ يفترق مسارا العسكرتاريا والسياسة، فيغلب الأوّل على الثاني فيختل ميزان الصراع لصالح دبلوماسية قاسية قريبة من الزناد ومن دون وجود يد على الطاولة.

في الاستراتيجية يلحظ الإيرانيون خصمهم بشكل جيّد. وربما وضع خبراؤهم خريطة لما يدور لديه لإدراك الموقف بشكل جاد بعيدا عن التنفيس الذاتي. هم يرونه قويا لكن قوّته مرهونة بعوامل متعددة باتت في أغلبها غير صلبة، وبالتالي فهو يجهد للحفاظ على الممر المُوصِل إلى تعظيم قوّته من دون المساس بهيبة دولة الرفاه الاجتماعي لديه.

عندما كان الأميركي يُنفق ستة عشر تريليون دولار على الحرب الباردة لم يكن لديه أدنى مشكلة ما دام ناتجه القومي يساوي أربعة عشر تريليون دولار. لكن الإشكال هو أنّ التقديرات التي أعقبت حرب الخليج الثانية وخصوصا بعد حادثة البرجين وبداية حربي أفغانستان والعراق قد غيّرت الكثير من أوجه المعادلة.

فحرب العراق الذي قُدّر لها أن تأكل ستين مليار دولار باتت تسير كلفتها على اليوم خط الستمئة مليار دولار! ويُتوقع لها أنْ تصل إلى ثلاثة تريليونات من الدولارات بحسب تقديرات جوزيف ستيجليتز، وهو معدل جنوني من الإنفاق لم يكن في الحسبان.

هذا على مستوى الإنفاق الحربي. أمّا على مستوى الدورة الممتدة للاقتصاد فإنّ بقاء ارتفاع أسعار النفط الذي وصل إلى 118 دولار سيعني أن توفير ألف مليار دولار سيكون ضروريا أمام الإدارة الأميركية (الحالية أو القادمة) لترميم عاهات اقتصادية أكيدة.

أما على المستوى المصرفي فلا أظنّ أنّ الولايات المتحدة بقادرة على معالجة مشكلة الرهن العقاري والتسنيد وانتقالها إلى الأوراق المالية من دون معالجة المُسببات الأصلية. فالمصارف الأخطبوطية سترفع من نسب الفائدة لإعطائها القدرة على استيعاب الوفرة النقدية المُسبّب الرئيس للتضخم، في ظل وجود سياسات اقتصادية قومية أخرى تُعنى بزيادة النمو.

طهران تعلم أنها أصبحت بالنسبة للولايات المتحدة «مشكلة بلا ملامح». فهي إن حاربتها خسرت، وإن هادنتها لن تكسب. والمتابعون يدركون حجم الصد الأميركي للدفوع الصهيونية لعمل أي شيء لإدماء إيران بأي وسيلة، لكن من دون جدوى. لأنّ حربا جديدة في المنطقة وضد إيران بالتحديد سيخلط الأوراق بشكل حاد ما بين المصالح الأميركية والروسية والأوروبية والصينية بل وحتى اليابانية والهندية.

وربما تكون ندّية إيران شبيهة بندّية الصين للولايات المتحدة المُرحّلة ما بين الاقتصاد والسياسة. فالأخيرة خصم لبكين لكنها باتت لا تستطيع أنْ تستغني عن ثمانين بالمئة من احتياجاتها الاستهلاكية منها، بل هي مدينة لها بثلاثة تريليونات من الدولارات.

فالملاحظ أن مفاتيح الكثير من الملفات الأمنية في المنطقة باتت في الجيب الإيراني، وهو ما يدفع واشنطن للتعاطي مع ذلك بواقعية كما هو الحال مع الصين ولكن من الجنبة الاقتصادية. وقد تكون المباحثات معها بشأن العراق شاهد حي على ذلك.

وربما يمتهن الطرفان الإيراني والأميركي بين الحين والآخر لدبلوماسية «شبه عسكرية» لعدم إبقاء العلاقات بينهما خاضعة للتنميط السلبي الذي لا يصب في مصلحة الاستراتيجية التي يتبعها البلدان الخصمان.

فقبل أيام صرّح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الأدميرال مايكل مولين بأنّ بلاده «ستواصل الاعتماد على الجهود الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها من الجهود غير العسكرية لتشجيع إيران على تغيير أنشطتها في العراق وغيره من الدول لكن البنتاغون لديه خيارات عسكرية يمكنه النظر فيها» لكن مولين استدرك بدهاء تلك الإشارة القاسية فقال: «عندما أقول إني لا أريد استبعاد أيّ خيار عسكري من على الطاولة فإنّ ذلك بالتأكيد أكثر من كونه يعني أن لدينا خيارات عسكرية»!

استبعاد التنميط السلبي في العلاقات السياسية ربما يتم عبر هذا التماس المحسوب. فمَنْ يتابع قضايا الخليج الأمنية سيتذكر أنّ الكثير من الحوادث الأمنية بين الإيرانيين والأميركيين قد جرت على أمواجه، سواء بالنسبة إلى حادث السفن الثلاث في يناير الماضي أو زورق تايفون في إبريل الماضي أو الحادث الأخير الذي حصل يوم الخميس االماضي لسفينة ويستوارد فنتور المتعاقدة مع الأسطول الخامس الأميركي.

بل الأكثر من ذلك فقد أعلنت استخبارات الحرس الثوري قبل أسبوعين أنّ الجسم المجهول الذي التقطته الزوارق الإيرانية في مارس/آذار الماضي في مياه الخليج وقرب بوشهر هو جهاز إرسال أميركي حسّاس. وهو قادر على التقاط الصور وبثها في الوقت ذاته إلى جهاز التقاط آخر.

في المحصلة فإنّ حربا بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية لن تقع. على الأقل في المرحلة القريبة والمتوسطة، بل إنّ ما يجري الآنَ لا يعدو كونه «حمية» حقيقية لعدم وقوعها، لصالح ظروف معيّنة يكون هدفها الأصيل هو فاعلية الخصم الحاضر، والإقلاع عن تنميط العلاقة بشكل سلبي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2061 - الأحد 27 أبريل 2008م الموافق 20 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً