انتقل قانون «الذمة المالية» إلى لجنةٍ في مجلس النواب لفصفصته، وينتظر عودته منها خلال أسبوعين، لينتقل إلى حائط صد آخر أقوى، حيث يتوقع أن يتم تقطيفه وتنتيف ريشه، فلا يخرج من الشورى إلاّ وهو فرخٌ صغير!
طبعا لا تُتوقع مواقف تعبر عن حرصٍ شوري شديدٍ على المال العام، قياسا على مواقف سابقة، إلا إذا حدثت معجزة! وكل ما يمكن توقعه هو سماع اجتهادات أخرى أكثر سطحية مادام بعض النواب «اجتهدوا» لعرقلة «الذمة المالية»، وساقوا حججا باطلة من قبيل مخالفته الشرع الإسلامي! والغريب أن هذا المجلس غالبية أعضائه من تيارات «إسلامية»، وكثيرا منهم درس الفقه الذي يشدّد على حرمة المال العام، ويحاسب على النقير والقطمير، ويتوعد بالنار والعذاب من يستولي على درهم من غير حق. وهم يعرفون أكثر منّا قصصا عما كان يجري في فترة الخلافة الراشدة، التي تعتبر الفترة الذهبية التي تدعو لعودتها تلك التيارات.
إلى جانب «الإسلاميين» الذين سيخونون أماناتهم ويخالفون قناعاتهم الفكرية بمثل هذا الموقف، هناك من يُسمّون المستقلين الذين لم يعرف الجمهور لهم استقلالية قط، فهم دائما منحازون، وعليهم هذه المرة أن يثبتوا أنهم مع الحفاظ على الأموال العامة والانحياز إلى جانب مصلحة الناس والأجيال.
مثل هذا القانون أصبح حاجة إصلاحية بالدرجة الأولى، والدفاع المتهافت لأحد النواب بأنه لا يُطبّق في الدول الغربية إنما هو مغالطةٌ تنفيها الوقائع، فضلا عن أنه موقف غير متوقع وغير مقبول على الإطلاق.
لسنا في وارد الاستشهاد بما يجري في تلك الدول، من محاسبةٍ عند تسلّم المسئولين مناصبهم الرسمية، وما يجري من جرد وتدقيق، إغلاقا لأبواب الفساد، وتقليلا من حالات الاستفادة من المنصب وسوء استغلاله. فالكشف عن الذمة المالية - كما يقول الكاتب الكويتي محمد الرميحي - للمسئول العام «وزيرا أو نائبا أو موظفا كبيرا، من سمات التقدم في المجتمع». ويستشهد على تطبيق هذه القوانين والأعراف في الدول المتقدمة بأمثلةٍ من بينها توثيق وزير خارجية بريطانيا السابق جاك سترو «ترقيته» في أحد أسفاره من درجة رجال الأعمال إلى الدرجة الأولى في سفره بمهمة رسمية، وثنّى بتوثيق رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير تمتعه بإجازة في الأردن على حساب ملكها وليس على حساب دافع الضرائب.
بل إن الهدايا التي يتسلمها الرؤساء في تلك الدول خلال زياراتهم للعالم الثالث غالبا لا تُحسب لشخص الرئيس، بل للدولة التي يمثلها فتودع في المتاحف وتعامل معاملة المُلك العام. بل إن رئيسا أوروبيا في حجم فاليري جيسكار ديستان (رئيس فرنسا السابق) سقط في الانتخابات بعد ما أثيرت حوله تهمة الرشوة بقبوله جوهرة ثمينة هدية من امبراطور أفريقيا الوسطى بوكاسا مطلع الثمانينيات.
طبعا لا يمكن مقارنة العالم الثالث بالديمقراطيات العريقة، ولكن لا يمنع ذلك من البدء بخطوةٍ من أجل الحفاظ على أقوات الشعوب على الأقل. ففكرة عزل الخاص عن العام - كما يقول الرميحي - إلى جانب أنها «فكرة نبيلة، بالتأكيد لا يقوم الحكم الصالح إلا بها»... وكل الخشية أن يخرج بعض «المشرّعين» غدا ليقول: «لن تمر الذمة المالية إلا على جثتي»!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2060 - السبت 26 أبريل 2008م الموافق 19 ربيع الثاني 1429هـ