أخيرا مرّ قانون كشف الذمة المالية، بأغلبية أصوات الوفاق والأصالة، على رغم معارضة بعض أعضاء المنبر، ومعارضة الحكومة بحجة «مخالفته للدستور»!
الرأي العام انتظر طويلا مثل هذا القانون، ولم يكن مستغربا موقف المؤيدين بل من عارضوه، خصوصا بعد أن أصبح حاجة ضرورية تعزّز الثقة بالمؤسسة الحكومية بعد ما نشر من قضايا فساد في عدد من مؤسساتها أو التابعة لها، آخرها شركة «ألبا».
المفارقة التاريخية هنا أن القانون قدّمته كتلة المنبر الإسلامي، ولكن عددا من أعضائها عارضوه عند التصويت أمس الأول، والتقت في ذلك مع بعض الجهات الحكومية، بحجة مخالفته للفقه الإسلامي! ولا ندري أي فقه يعارض الإجراءات التي تضمن الشفافية وبراءة الذمة وتأكيد الأمانة. فمن قرأ التاريخ يعرف جيدا أن مبدأ «من أين لك هذا»، لم يكن من نتاج الثورة الفرنسية الكبرى، وإنما كان من أروع ما أنتجه الفكر الإسلامي في عهوده الأولى. فمسألة المال مسألة حساسة ما كان ليغفل عنها المسلمون الأوائل، وكانت تشكّل هاجسا قويا في عهد الخلفاء الراشدين.
ولعل أول إشارة لتطبيق هذا المبدأ، ما حدث في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض)، من محاسبة الولاة، والتي ظلت قصص عدله ومحاسبته لعماله تلهب خيال المسلمين الطامحين للعدل والمساواة جيلا بعد جيل. ولعل أشهرها ما فعله مع واليه على البحرين حين عودته إلى المدينة، إذ حاسبه حسابا شديدا وصادر منه نصف الثروة التي عاد بها لصالح بيت المال.
على المسار الإسلامي الآخر، تروى قصصٌ عن طريقة تعامل الإمام علي (ع) مع ولاته على الأمصار، وتشدّده في قضية المال التي لعبت دورا حاسما في إنهاء عهد الخلافة الراشدة، وهي تجربةٌ خلص منها عليٌ إلى القول: «أنا يعسوب الدين والمال يعسوب المنافقين». (واليعسوب هو ذكر النحل والقائد الكبير). ولعل أروع الأمثلة حين أطفأ شمعة من بيت مال المسلمين ليستخدم شمعة من ماله الشخصي عندما جاءه بعض الزائرين في شأن خاص. وحين اعتلى منبر الكوفة (عاصمة الدولة الإسلامية آنذاك) خاطب الجمهور قائلا: «إذا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فأنا خائن».
هذه هي الذمة المالية التي حرص الإسلام عليها، وجهدت الشعوب على إقرارها، وصاغتها الحكومات العصرية في قوانين تبرئ ذمة المسئولين فيها، لتبقى صفحتهم نظيفة أمام الجمهور، لئلا يكون المنصب مغنما يكرع منه الطامعون، ويصبح المال العام سائبا لمن أمن المساءلة، فأين مخالفة ذلك للفقه الإسلامي؟
على أن أسوأ من ذلك، ما ساقه النائب عزيز أبل، من تبريرٍ متهافتٍ لامتناعه عن التصويت، بدعوى أن الدول الديمقراطية لا تطبّقه والدول العربية لا تستطيع تطبيقه. فالحقيقة أن المسئولين في الدول الغربية لا يتسلمون مناصبهم قبل جرد ممتلكاتهم، ويشترط بعضها الإعلان عن حركة ممتلكاته كل عام. كما أن عدم تطبيقه حجةٌ على الدول المتخلفة عن ركب القوانين العصرية وليس حجة لها.
وأخيرا... لعلنا نتذكّر أن بعض النواب الكويتيين افتتحوا عملهم في البرلمان بتقديم كشف بذممهم المالية طوعا، بينما يعارض بعض نوابنا هذا القانون!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2057 - الأربعاء 23 أبريل 2008م الموافق 16 ربيع الثاني 1429هـ