العدد 2057 - الأربعاء 23 أبريل 2008م الموافق 16 ربيع الثاني 1429هـ

إدارة واشنطن... والسياسة التجريبية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إلى أي مدى تستطيع أن تستمر الإدارة الأميركية في سياستها التجريبية التي باشرتها علنا بعد صدور تقرير بيكر - هاملتون بشأن العراق في نهاية العام 2006. السياسة الأميركية حتى الآن غير واضحة في مختلف ملفات المنطقة الساخنة. ففي كل قضية هناك زاوية غامضة تحتاج إلى إضاءة، ولكن واشنطن التي تتبع خطوات براغماتية مترددة وحذرة تظهر أحيانا ذاك الاستعداد للاتجاه نحو «عقلانية واقعية» من دون أن تتخلى عن ترسبات أيديولوجية توارثتها الإدارة عن المرحلة السابقة.

هذا التردد في السلوك البراغماتي المستحدث يعود أساسا إلى تلك «التجريبية» التي تفتقد إلى رؤية عملية تحدد الإطار المطلوب لإعادة تأسيس تصورات واقعية في التعامل مع قضايا المنطقة. الإدارة الأميركية تؤكد نظريا أنها تغيرت ولن تكرر تلك السياسة الأيديولوجية الانقلابية. ولكن الوقائع الميدانية تشير إلى أن المدرسة البراغماتية تفتقد إلى رؤية وهي لاتزال أسيرة خطوات تجريبية يمكن أن تغادرها أو تتخلى عنها في لحظة غير مسيطر عليها. وهذا الحذر الذي يظهر في التحركات والاتصالات يكشف عن وجود رغبة في استئناف السياسة السابقة في حال توافرت الظروف الدولية والاقليمية المناسبة.

«التجريبية» نزعة سلوكية تحتمل ظهور انعطافات يمكن أن ترتد إلى الطور الأول، كذلك ترجح احتمالات تبلور خطوط واضحة المعالم في التعامل مع الملفات الساخنة. وبين التوقعين يلاحظ أن إدارة واشنطن تعمل على سكة تقطيع الوقت بقصد الظهور على مسرح السياسة بموقع جديد يموه تلك المواقف التي رسمت عناوين استراتيجية اتسمت بالتطرف والمبالغة في استخدام القوة للتقويض وتغيير المعادلات.

الإدارة الآن تتذرع بتقرير بيكر - هاملتون بصفته يشكل ذاك الغطاء الرسمي الذي يبرر لها اتصالاتها بدول المنطقة والمحيط الجغرافي الملاصق للحدود العراقية. فالتقرير الذي صدر عن لجنة ثنائية ديمقراطية جمهورية نصح الإدارة بربط قضايا المنطقة إذا أرادت البحث عن مخرج لمأزق الاحتلال في العراق. وأوصى التقرير بإجراء اتصالات مع «دول الجوار» للمساعدة في إيجاد مسالك تضمن الانسحاب المشرف والتوصل إلى حلول متوازنة وعادلة للقضايا الأخرى المتصلة بالملف العراقي.

التقرير شكل فرصة للإدارة الأميركية للتهرب من معالجة مباشرة للمسألة العراقية. فهو أعطى ضمانات سياسية ومساحة للوقت وذريعة لتطويل الاحتلال حين ربط الانسحاب العسكري بمعالجة مشكلات مزمنة مضى على بعضها 60 سنة من دون حل معقول ومقبول. ومنذ صدور التقرير الثنائي اعتمدت الإدارة سياسة تضييع الوقت والتهرب من الإجابة عن سؤال محدد بشأن جدولة الانسحاب من العراق. والذريعة التي تغطت بها الإدارة هي أن الانسحاب يرتبط بمعالجة قضايا المنطقة المتصلة ببلاد الرافدين. الذريعة صحيحة من زاوية المبدأ في اعتبار أن حلقات السلسلة مترابطة، ولكنها شكلت من زاوية إدارة واشنطن ذاك الملاذ الآمن الذي أعطاها فرصة من الوقت للمناورة والتهرب من المسئولية.

ربط قضايا المنطقة في سلسلة حلقات مسألة معقدة يمكن التعامل معها من زاويتين متعارضتين. فهناك الارتباط الجغرافي - التاريخي الثابت الذي ينظر إلى المنطقة بوصفها وحدة إقليمية ثقافية استراتيجية (قومية أو إسلامية) لا يمكن عزل ملفاتها عن بعضها لأسباب جيوبوليتيكة، وهناك ذاك الرابط السياسي المتحرك الذي يرى أن الملفات متداخلة ولابد من معالجتها في «صفقة» كبيرة تخفف الخسائر عن الولايات المتحدة وترمي الكرة في ملعب القوى الاقليمية وتحتج بها لتحميلها لاحقا مسئولية الفشل في التوصل إلى حلول للمشكلات الساخنة.

الإدارة الأميركية كما يظهر من سياستها التجريبية التي اعتمدتها علنا في مطلع 2007 تتحرك في نطاق «الرابط المتحرك» لا «الارتباط الثابت». فهي من جهة تؤكد اتصال الملفات ومن جهة أخرى تتذرع بذاك الرابط للقول إنها غير قادرة على فك الاشتباك لا في لبنان ولا فلسطين ولا إيران ولا سورية وصولا إلى تبرير وجودها العسكري إلى أطول فترة ممكنة في العراق.

تجريبية طويلة المدى

هذا الاحتيال «البراغماتي» على النقاط الملتهبة في المنطقة أعطى فرصة لسياسة تجريبية طويلة المدى زمنيا. فالإدارة تصر على عدم جدولة الانسحاب من العراق بذريعة أنها تبحث عن «خريطة طريق» في فلسطين، وأنها غير قادرة على اقناع الأطراف المعنية بضرورة التوجه نحو اعتماد «حل الدولتين» في فلسطين مادام المسار السوري لم يتحرك باتجاه كسر الجمود. والمسار السوري لا يمكن الدخول به إذا لم تتوضح معالم المسارين الفلسطيني واللبناني. وموضوع لبنان لا يمكن فك ارتباطه عن المسارين السوري والفلسطيني مادامت مشكلة العراق لم تستقر على سياسة واضحة المعالم في إطار التوافق مع «دول الجوار». ودول الجوار التي تحيط بالعراق لابد لها من المساعدة على استقرار بلاد الرافدين وضمان وحدتها «الفيدرالية» وهويتها العربية والإسلامية. وهكذا إلى آخر النقاط الملتهبة وصولا إلى مشروع التخصيب النووي الإيراني وما يتفرع عنه من فزاعة أمنية تخيف دول المنطقة وتضغط عليها لاتخاذ مواقف متشنجة.

شكل تقرير بيكر - هاملتون ذريعة لإدارة بوش لكسب الوقت والاحتيال على موضوع «جدولة الانسحاب» حين أعطى فرصة للمناورة وتدوير القضايا تحت سقف ذاك «الرابط المتحرك» الذي يشد حلقات السلسلة إلى بعضها. وبسبب هذه الذريعة دخلت المنطقة خلال السنة الماضية فترة من الجمود السياسي حين أدخلت كل القضايا في ثلاجة الحل بانتظار معالجة مختلف الملفات دفعة واحدة وضمن صفقة كبيرة تشمل إيران والعراق وسورية وفلسطين ولبنان وكل دول الجوار.

المشكلة الآن ليست في «الرابط المتحرك» ولا في «الارتباط الثابت» وإنما في ضياع الوقت واحتمال هدر ما تبقى منه في لقاءات ومؤتمرات واتصالات وزيارات لا فائدة منها سوى الوعد بوجود خطة للبحث لن يعلن عنها إلا في اللحظة المناسبة. وبما أن «اللحظة» تنتظر «المناسبة» يرجح أن تستكمل الإدارة سياسة تقطيع الوقت كما ظهرت من خلال تلك الصور التذكارية التي التقطت في أنابوليس وباريس وأنقرة والقاهرة وشرم الشيخ والدوحة والمنامة وصولا إلى قمة دول الجوار الموسعة في الكويت. فكل البيانات الختامية والإعلانات والتصريحات أشارت إلى ضرورة التفاوض والحوار وفتح القنوات على المسارات في مختلف الاتجاهات من طهران وبغداد إلى دمشق وبيروت ورام الله وتل أبيب.

الذريعة التي تتلطى بها واشنطن في سياستها التجريبية (البراغماتية) تتركز على تقرير بيكر - هاملتون الذي أشار إلى ترابط الملفات ونصح بإجراء اتصالات مع مختلف الأطراف وكل دول الجوار للتعرف على قنوات يمكن أن توصل الإدارة إلى اكتشاف تلك «الخريطة» التي تفتح أمام قوى المنطقة طرقات الحل. دمشق الآن تنتظر تلك الردود الإيجابية للبدء في فتح المسار السوري. سلطة محمود عباس قلقة من احتمال أن يكون فتح المسار السوري ذريعة أميركية لإقفال المسار الفلسطيني. لبنان الضعيف والمشلول بات ينتظر الآن تلك «الصفقة» الموعودة حتى يحدد مساره إما باتجاه مجلس النواب لانتخاب رئيس أو نحو هاوية الخراب الكبير والفتنة الأهلية. إيران تنتظر بتوتر ماذا سيكون عليها فعله في حال قررت واشنطن إقفال طرقات الحوار «الفني» و«التقني» إذا توافرت البدائل الإقليمية والعربية. هناك مسارات تتطلب «صفقة» واحدة، وهذا الاحتمال غير وارد الآن بسبب صعوبات القضايا المترابطة وتراجع لعبة تقطيع الوقت في اعتبار أن الفرصة الزمنية أخذت تستنزف ساعاتها.

أمام الرئيس جورج بوش ثمانية أشهر للخروج من البيت الأبيض. وخلال هذه الفترة الزمنية يرجح ألا تتوصل الإدارة الأميركية إلى تسوية أي مشكلة بذريعة ذاك «الرابط المتحرك» الذي يمنع عزل الملفات عن بعضها وفي الآن يعطل إمكانات معالجتها دفعة واحدة وفي إطار «صفقة كبيرة». والنتيجة ستكون تأجيل الحلول إلى أبعد مدى يتجاوز نهاية عهد بوش الجمهوري.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2057 - الأربعاء 23 أبريل 2008م الموافق 16 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً