تظل مصر نموذجا مثاليا للدولة الإقليمية الكبيرة، التي تتعرض هذه الأيام لاحتقان سياسي واضطراب اجتماعي، نتيجة التحولات المتسرعة في التوجهات الاقتصادية... أي الانتقال المتعجل من حالة التخطيط المركزي إلى السوق الحرة وآلية العرض والطلب، بضغوط خارجية عاتية.
أزمة مصر الحقيقية أنها نامت طويلا ثم استيقظت على صخب العولمة الشرسة، وأنيابها الحادة التي تدمي الفقراء ومتوسطي الحال، من دون تدخل سيادي من الدولة لمد الرعاية والعدالة الاجتماعية وفرض سياسات حمائية للطبقات الأفقر، هي سياسات معمول بها حتى في الدول الرأسمالية العتيدة.
خلال العامين الأخيرين تحديدا، بدأت ضغوط العولمة الشرسة وتأثيرات الليبرالية المتوحشة السلبية، تظهر على سطح المشهد المصري أكثر من أي وقت مضى، وربما أكثر من أي دولة كبيرة التأثير فقيرة الإمكانات، وبقدر ما نعتقد أن الخروج من هذه الأزمة الحادة لن يكون سهلا أو قريبا، بقدر ما نعتقد أن المعالجة الحالية لهذه الأزمة لن تفك عقدتها الراهنة.
ذلك أن الأمر اخطر، لا تنفع فيه المسكنات الاجتماعية والاقتصادية أو المهدئات السياسية، معالجة المرض العضال بالمسكنات هو عمل وقتي ربما لتخفيف بعض آلام المريض، لكنها تظل مسكنات لا تعالج المرض نفسه، الذي يستفحل يوما بعد يوم في ظل التعامي عن أسبابه ومخاطره.
في هذا الصدد لا يمكن إقناعنا بأن الاحتجاجات الاجتماعية المتصاعدة في مصر هذه الأيام، وأخطرها إضراب السادس من أبريل/ نيسان 2008، هي مجرد تدبير شيطاني لجماعات تخريبية أو قلة متآمرة، ولا يمكن إقناعنا بأن الحكومة والدولة نجحتا في استيعاب هذه الاحتجاجات بوسائل أمنية متشددة، وكذلك لا يمكن إقناعنا بأن الأزمة الراهنة، من أزمة الخبز ومياه الشرب، إلى الاحتجاجات والإضرابات بين العمال والمهنيين والمثقفين هي مسئولية الحكومة الحالية، التي فشلت في حلها وعليها تحمل مسئولية هذا الفشل... وترحل!
لقد قلنا من قبل ونكرر ثانية أن الحكومة في النظام الرئاسي مجرد أداة تنفيذ لسياسات عامة يضعها رئيس الدولة، وقلنا إن المسألة ليست في فشل حكومة أو نجاحها، بقدر ما أن الأمر الجوهري يتعلق بالرؤية العامة والفلسفة الحاكمة كلها، فهي الأصل والأساس، إن وضحت تقدمنا وإن غامت أو غابت وقع المحظور.
ولذلك نعيد طرح السؤال، ما هي رؤية مصر للمستقبل، كيف نحلم ونعمل بمصر بعد عشرين عاما من الآن، ما هي الفلسفة الحاكمة لتحويل هذه الرؤية، إن تبلورت، إلى خطط تنفيذية تتولاها حكومات كفؤة، يحاسبها برلمان شعبي منتخب انتخابا نزيها، وتقومها وترشدها صحافة حرة وإعلام مستقل، وتعارضها و تراقبها أحزاب سياسية ذات قوة وتأثير، ويحكم لها أو عليها رأي عام يقظ.
ولأننا نعتقد أنه ما من حكومة حالية أو قادمة تستطيع الخروج من الأزمة الضاغطة الراهنة، خلال عامين مثلا، فإننا نقترح ترك مثل هذه الحكومة تعمل كما هي فالأزمة بلغت ذروتها، وبالمقابل نقترح أن تشكل هيئة أو جماعة من العقول المستنيرة والأفكار الجديدة، تضم نحو 200 شخصية من الداخل والخارج، لتضع من الآن مشروعنا السياسي المقبل، «رؤية لمستقبل مصر حتى العام 2025» كمرحلة أولى.
وبقدر ما يجب أن تحيط الدولة هذه الجماعة المستقلة والوطنية بأكبر قدر من الحصانة، فإنه يجب أيضا أن يبتعد تشكيلها عن المجاملات وعن الانتماءات الحزبية الصارخة، وخصوصا الحزب الحاكم المهيمن الذي يقول لنا على امتداد سنوات طوال إنه يملك رؤية ومشروعا سياسيا للإصلاح الاقتصادي والسياسي والديمقراطي، فإذا بالنتيجة هي ما تعانيه مصر الآن من احتقان سياسي واضطراب اقتصادي واحتجاج اجتماعي تتصاعد وتيرته كل يوم.
ومن باب الاجتهاد الشخصي نقترح أن تناقش هذه الهيئة الوطنية تصور رؤية لمستقبل مصر حتى العام 2025، تقوم على أساس إعادة صوغ السياسات العامة والفلسفة الحاكمة كمشروع قومي موحد، يحدد المسئوليات والواجبات انطلاقا من خمسة مبادئ حاكمة وهي:
أولا: إجراء إصلاح ديمقراطي حقيقي يطلق الحريات ويحترم حقوق الإنسان، ويحترم تداول السلطة عبر انتخابات نظيفة تحت الإشراف القضائي، بما في ذلك تعديل الدستور أو وضع دستور جديد يتسق مع هذا التوجه.
ثانيا: الالتزام بالتنمية الإنسانية الشاملة، وهي بالمناسبة ليست من ميراث الإيديولوجيا اليسارية كما يدعي البعض، لكنها من بديهيات الليبرالية العادلة في بعض الدول الغرب الرأسمالية.
ثالثا: تحقيق العدالة الاجتماعية للطبقات والفئات الأفقر في مصر، وهي الغالبية الساحقة، حين نعلم أن 48 في المئة من المصريين أصبحوا تحت مستوى خط الفقر، وأن 20 في المئة آخرين ينجرفون سريعا نحو خط الفقر بسبب الأزمة الاقتصادية الاجتماعية، وأن 20 في المئة بعد ذلك يمكن أن نطلق عليهم المستورين، بينما تظل نسبة 10 في المئة تتحكم في معظم الثروة والسلطة، وتتنازع الاختصاص وتتصارع بشراسة على اكتناز الثروات ومحاصرة مصادر القرار والخضوع لسلبيات العولمة الشرسة.
رابعا: صوغ التزام وطني تاريخي بمحاربة تحالف الفساد والاستبداد في كل لحظة وفي كل مكان يمثل عقدا اجتماعيا جديدا بين الشعب وحكامه.
خامسا: ترشيد الليبرالية المتوحشة وقمتها العولمة الشرسة، كما فعل وتفعل دول رأسمالية وليبرالية غربية عتيدة، بدلا من ترك هذه العولمة تطحن الشعب الفقير المقهور أصلا.
أعرف مقدما أن هناك من قد يأخذ هذه الاقتراحات على محمل الجد، بينما هناك من يسخر ويتجاهل ويدّعي أن لديه ما هو أفضل... لكننا نعتقد بصورة واضحة أن هذه الأزمة الخانقة لن تحلها حكومة ترحل أو حكومة تأتي، طالما أن السياسات والفلسفة الحاكمة غير محددة الأفق وغير قادرة على استشراف المستقبل، والحلم بوطن جديد للحرية والعدالة الاجتماعية.
ولأننا نختتم هذه السلسلة من المقالات بشأن الأزمة الراهنة، وصعوبة حلها بالوسائل المتبعة حاليا، فإننا ننبه مرة أخرى إلى خطورة سياسة التسويف وترحيل الحلول وعلاج الأزمات الخانقة بمسكنات وقتية، بينما التجاهل كامل لرؤية، لأفق، لحلم، لمشروع قومي يعيد صوغ المستقبل ويحقق النهضة التي نتمناها للوطن.
ثم تبقى ملاحظتان في النهاية...
الملاحظة الأولى وتتلخص في أن الاحتقان قد وجد حليفه الطبيعي وهو التوتر الشعبي والحركات الاحتجاجية والتذمر الاجتماعي، بسبب تردي أوضاع المعيشة، وهو تحالف سيتصاعد في ظل تعقد الأزمة وعلى رغم المواجهات الأمنية، ما ينذر بمزيد من الخطر الداهم.
الملاحظة الثانية تصب هي الأخرى في مجرى الاحتقان والتوتر، ونعني حصر الصراع في ثنائية السلطة والحزب الوطني الحاكم من ناحية وجماعة الأخوان المسلمين من ناحية ثانية، باعتبارها في عرف كثيرين، قوة المعارضة الأولى... هذا صراع ثنائي ليس حقيقيا، ولا يجب على القوى السياسية والاجتماعية والفكرية الأخرى، الوقوع في حبائل استقطابه إلى النهاية... فكلاهما لا يمثل مصر الحقيقية!
كلاهما يتعيّش على مظاهر الأزمة.
خير الكلام: يقول أبو العلاء المعري في اللزوميات:
نحن غرقى فكيف ينقذنا
نجمان في حومة الدجى غَرِقان!
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2056 - الثلثاء 22 أبريل 2008م الموافق 15 ربيع الثاني 1429هـ