خطأ المالكي أنه فاضَلَ بشكل سلبي بين مرجعيتين سياسيتين رئيسيتين وهما الحكيم والصدر، فهو الذي جاء إلى رئاسة الوزراء على حصان الصدريين في قِبال مُرشّح المجلس الأعلى عادل عبدالمهدي، لكنه ومنذ اجتماعه بالرئيس الأميركي جورج بوش في عمّان في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2006 وبداية الخلاف بينه وبين مقتدى الصدر بدأ يستند أكثر على قوة الحكيم السياسية في موقعه التنفيذي على حساب قوة الصدر العسكرية والشعبية.
وكان بإمكانه أن يربح تأييد الحكيم له ولا يخسر دعم الصدر لشخصه، وهو بالتالي قد تسالم مع الأول على حساب الثاني وهو ما جعل المعادلة مختلّة. هو محتاج (أي المالكي) ضمن هذا الخط إلى تصحيح في التعاطي: أن يبقى حليفا للحكيم كقوة مُعتبرة في العراق فيُعزّز من مركزه في الحكومة فيضمن تأييد الإيرانيين له باعتباره حليفا لحليفهم «السياسي». ويظلّ وفيا للصدر كقيمة عسكرية وبشرية عارمة في داخل العراق فيُكرّس من وجوده ووجود حزب الدعوة داخل التيار الصدري ويُعطيه ورقة رابحة يُناكف بها الأميركيين للتخلّص من الكثير من الضغوط المفروضة عليه وخصوصا في موضوع الاتفاق الأمني والنفطي وأيضا في مسألة العقود التجارية الكبيرة، وفي جدولة الانسحاب، والأكثر من ذلك أنه سيضمن تأييد الإيرانيين له بشكل أكبر لأنه حليف لحليفهم «العسكري». لكنه لم يفعل واستمرأ التمسك بالمرجعية السياسية على حساب المرجعية العسكرية، بل سعى إلى تقليم أظافرها، وهو ما سبّب له مشكلة مع التيار نفسه ومع الحكومة الإيرانية نفسها، إلى الحد الذي دفعته لأن يُصرّح في مقابلة تلفزيونية بأن «دولا إقليمية تدعي دعمها للعملية السياسية في العراق تدخلت في أحداث البصرة وأن وفودا أرسلت لطرح القضية مع تلك الدول» في إشارة صريحة إلى إيران.
ثم تورّط مساعدوه في مشادات أكثر مباشرة حين صرّح وكيل وزارة الخارجية العراقية لبيد عبّاوي خلال الدورة الثانية لمؤتمر خبراء الأمن في دول جوار العراق في دمشق السبت ما قبل الماضي، بشأن الدعم الإيراني للتيار الصدري في معركة البصرة والرد المُلوّم الذي صرّح به رئيس الوفد الإيراني داوود فيروزيان بأن بلاده أسهمت في «ضبط الاشتباكات والحدّ منها ودعم الخطط الأمنية للحكومة وتطبيق القانون».
أيضا في إخلال المالكي بمعادلة توازي «المرجعية السياسية (الحكيمية) والمرجعية العسكرية (الصدرية)» دفعت بقائد القوات الاميركية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس إلى القول خلال مؤتمر صحافي في واشنطن الأسبوع الماضي بضرورة «التعامل مع جيش المهدي بطريقة أدق وأكثر حساسية، وينبغي اتباع نهج دقيق وحساس للغاية بينما تمضي الأمور قدما، للتأكد من أنهم لا يشعرون وكأنهم محشورون في الزاوية من دون خيارات متاحة بين أيديهم». وهو ما يعني وجود مسافة واضحة بين موقف المالكي وموقف الإدارة الأميركية التي أعلنت أنها كانت على شفا معركة مع إيران في جنوب العراق، وخصوصا أن الأميركيين يعنيهم كثيرا أن يبقى الأمن مستقرا لترميم الجبهة الجمهورية في الانتخابات الرئاسية الأميركية والحرص على عدم تثوير التيار الصدري من جديد. طهران استطاعت ترتيب علاقة التيار الصدري مع المرجعية العليا في النجف الأشرف المُمثلة في المرجع الديني السيد علي الحسيني السيستاني بعد المناكفات التي حصلت بين التيار والسيستاني بُعيد سقوط بغداد، ورواج مصطلحي الحوزة الصامتة (التقليدية) والحوزة الناطقة (التجديدية). فطهران تريد تكريس نفوذ السيد السيستاني، فهو مرجعية تمزج بين التقليد والتجديد، تحسّس من السياسة لكنه لم يبتعد عنها، واستراب من الفيدرالية فجانب تأييدها، ورفض توريث مرجعية أستاذه السيد الخوئي واستحقاقاتها لأبنائه بمؤسسة لندن، ولم يُعرف عنه موقف ضد الجمهورية الإسلامية.
في موازاة ذلك الدعم سعت طهران مرارا نحو تشذيب وتحسين مُكوّنات التيار الصدري، فساهمت في غربلة صفوفه من البعثيين والعصابات التي بلغ عددها أزيد من أربعين عصابة تمّ إخراجها من جيش المهدي بحسب ما أفاد به أحد قيادات التيار.
الإيرانيون كانوا يُدركون أن التيار الصدري هو تيار مجروح، عاش في أحلك فترات العراق السياسية والاقتصادية والإنسانية. والأكثر أنه كان باكورة تشكّل خطاب إسلامي أفقي مبسوط إلى حدّ ما داخل العراق خلال الحقبة الصّدامية، وبالتالي فهو بالتأكيد قد حمل معه غثّه وسمينه، حسناته ومثالبه لصعوبة التمييز بين الصالح والطالح أثناء الأزمات والبيئة المتنافرة. ثم إن الجميع قد أدرك المشكلة الكامنة بين هذا التيار وبين غيره من مُكوّنات الحركة السياسية والدينية في العراق. فمُقدّسه التاريخي والإجرائي والكاريزمي قد تعرّض غير مرة إلى انتهاك وتحريض جعلته مرتابا ومتحسّسا لكثير من الأمور. ثم إن نقطة التّماس بينه وبين غيره من المُكوّنات الدينية والسياسية العراقية التي دخلت العراق بعد سقوط بغداد، لطالما تعرضت إلى مناوشات جعلته حريصا أكثر من أي وقت مضى على إرثه ومُنجزه. وكان لزاما على الزعامات الدينية الكبرى في العراق وخارجه أن تحتويه وتُروّضه وتسبغ على ما يُمكن أن يُسبغ عليه جانبا من الشرعية والمشروعية. وهو ما حرصت عليه طهران، حين استقبلت زعيمه مقتدى الصدر استقبال القادة والرؤساء في يناير 2006، لذلك فالصدر بات اليوم مُستمعا أكثر من أي وقت مضى إلى جهات عليا في إيران بحسب مصادر مُقرّبة جدا إلى التيار الصدري.
المرجع الديني السيد كاظم الحسيني الحائري أحد مراجع التقليد في مدينة قم المقدسة قام أيضا بتسكين هواجس التيار الشرعية والمرجعية. فحين سُئِل «ما رأيكم بمن يقتل من جيش الإمام المهدي وهو يدافع عن الدين والمقدسات والنية لله؟ أجاب: كلّ من سقط في معركةٍ رزقه الله تعالى قدر نيّته ودركه وتشخيصه إن شاء الله تعالى»، (راجع استفتاءات السيد الحائري حول التيار الصدري). أيضا يحظى التيار بدعم أحد المرجعيات النّجفيّة الأربع وهو آية الله العظمى الشيخ إسحاق الفيّاض.
إيران تتأهّب للتعامل مع سيناريوهين بالنسبة إلى التيار الصدري، أحدهما ناجز والآخر مُؤجّل. أما الناجز فهو أن تبقى الأمور على حالها من دون تغيير جوهري بحيث يبقى التيار الصدري وذراعه العسكرية نَشِطا، مع وجود خطاب شفاف لقياداته تُفرز فيه الجماعات المتشظّية عنه لكي لا تتحمّل عباءة السيد مقتدى الصدر وزر أحد من المتدثرين بها. والسيناريو الثاني هو أن يتوصّل الجميع إلى قرار حل جيش المهدي وتحويله (كما حدث لفيلق بدر) إلى منظمة مدنية واجتماعية، بعد استشارة المرجعية العليا في النجف الأشرف، وفي ذلك فإن طهران ستربح داعما قويا لحلفائها في العملية السلمية بثلاثين نائبا تواجه بهم بقية الكتل المتمردة والعصيّة، وستعيد ترميم الحكومة الحالية بعد انسحاب الصدريين من الائتلاف منذ سبتمبر/ ايلول الماضي، وقبله وزرائه الستة من الحكومة في شهر أبريل/ نيسان من العام 2007 وأيضا كتلة التوافق السُنّية.
ومن الجهة الأخرى ستسعى طهران للملمة بقايا جيش المهدي من المتمردين الذين لن يقبلوا بخطة التسريح لتنظيم صفوفهم من جديد على شكل خلايا عسكرية تتّبع خطط حرب العصابات ضد القوات الأميركية (راجع تصريحات قيادات التيار الصدري كراسم المرواني، وزهير الكوفي وأبو شجاع الخفاجي الأسبوع الماضي). وستستفيد هذه السياسة قطعا بمن تمّ طردهم من الجيش والشرطة منذ منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2006 وانتهاء بمعركة البصرة والكوت بحجّة «تقصيرهم في أداء واجباتهم» وولاءاتهم الطائفية والحزبية.
السيناريو الأول سيتواءم مع البنود الخمسة عشر التي أقرّها المجلس السياسي للأمن الوطني، وأيضا إرضاء وتلبية لرغبة المالكي ودعما لحكومته في أن ما يحصل الآن في العراق هو «جبهة وطنية تشكّلت ضدّ ما يجري» ومماشاة لقراره بأنه لن يحق للتيار الصدري المشاركة السياسية وكذلك في الانتخابات المقبلة «إلا إذا حُلّ جيش المهدي». وفي السيناريو الثاني ستضمن طهران تشكيل جبهة موحّدة من مُسلحي جيش المهدي وتوجيهها خارج الخط التقليدي المرتبك للتيار الصدري والذي اختلطت فيه أجندة مقاومة المحتل الأميركي مع تصفية الحساب مع قوى سياسية أخرى. حيث ستكون هذه الخلاصات المُسلّحة موجهة توجيها كاملا ضد القوات الأميركية لضمان بقاء عامل إزعاج للأميركيين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2055 - الإثنين 21 أبريل 2008م الموافق 14 ربيع الثاني 1429هـ