مساء الجمعة الماضي، عرض تلفزيون البحرين تسجيلا للحفل الإنشادي الرابع بنادي الخريجين، في سلسلة احتفالات البلاد بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف.
الحفل نظّمته جمعية الإمام مالك بن أنس تحت شعار «ورفعنا لك ذكرك»، قبل ثلاثة أسابيع، وأعتبر نفسي محظوظا لدعوتي لحضور هذه الأمسية الجميلة، التي تعطّرت بالثناء والمدح لسيد المرسلين (ص)، الذي وحّد الأمة المتناحرة قبل 15 قرنا، وهو الوحيد الذي يمكن أن تجتمع تحت رايته مرة أخرى، بعد أن عادت أحزابا متنافرة وقبائل متناحرة، وطوائف كل تدّعي وصلا بحبله المتين.
كانت الدعوة فرصة للتعرف على عالَمٍ روحي جميل، يذكّرنا بأجواء عمر بن الفارض وابن عربي والإمام البوصيري وكبار العشّاق والمتصوفين.
الحفل أحياه المنشد الحلبي السوري الشهير حسن حفّار، «منشد الوطن العربي الأول»، الذي شاهدته وسعدت بالتعرّف عليه لأول مرة، فكم من عوالم مجهولة على المرء سبر أغوارها في هذا العالم الكبير. كما صحبه في الأداء نخبةُ من خيرة منشدي بلاد الشام الشباب.
في التسجيل الذي بث أخيرا، أحسن المنتجون اختيار بعض اللقطات التي تكشف كم كان تفاعل الجمهور، وفي مقدمتهم الشيخ راشد المريخي والشيخ ناجي العربي وبعض القضاة. ولو حضرتم لشاهدتم التفاعل الحيّ على الهواء، فبعض الحضور طالب بأن يعيد المنشد بعض المدائح الشعرية، وبعضهم طلب قصائد معينة، فيما ذكر أستاذ الشريعة بجامعة الكويت (واسمه الشرّاح) أنه يستمع إلى الحفّار مذ كان شابا ويطرب لإنشاده. وحقّ له ذلك، فمثل هذه الحنجرة الذهبية، ومثل هذا الأداء البديع، من شأنه أن يسحر الأفئدة ويستهوي القلوب. وقد كان إلى جواري شابٌ في العقد الثالث ظلّ يترنّح ويهتز طربا، بينما خالجني شعورٌ لا يوصف، قريبا مما قاله سلطان العاشقين ابن الفارض رحمه الله:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرْمُ
يقولون لي صفها فأنت بوصفها خبيرٌ أجل! عندي بأوصافها علمُ
صفاءٌ ولا ماءٌ ولطفٌ ولا هوا ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ
قصائد كثيرة أنشدت في تلك الليلة، هي امتدادٌ لشعر المدائح النبوية عبر القرون، منذ أيام حسان بن ثابت (رض)، تسمعها تتردّد على إيقاع صوتي بسيط، فكيف سيكون شعورك وأنت تسمع:
لطيبة عرّج إن بين قبابها حبيبٌ لأدواء القلوب طبيبُ
إذا لم تطب في طيبةٍ عند طيّبٍ به طابت الدنيا... فأين تطيب؟
أو تسمعه يستنجد في قصيدة أخرى بالسماء في هذا الظرف الذي تكالبت فيه القوى الاستعمارية بالأمة:
يا خالقنا ويا رازقنا... عجّل بالنصر وبالفرج
ثم ينقلك إلى مطلع العام الهجري الأول، لتعيش مع أهل يثرب فرحتهم وهم يستقبلون المصطفى (ص) بالدفوف:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
ليلةٌ روحانيةٌ جميلةٌ، لم تسمع فيها غير المدح واستذكار مآثر الرسول (ص) وأهل بيته وصحابته الكرام، ليت التلفزيون بث تسجيلها كاملا ولم يكتفِ بمقاطع يسيرة منها، فما أحوج الناس لسماع ما يجمع القلوب، بدل البرامج التي تكدّر النفوس، وتثير الفرقة، وتوزع التهم والأوصاف المسيئة على أبناء الشعب ومطالبتهم بالسكوت. رسالةٌ نأمل أن تصل القائمين على جهاز التلفزيون، وعلى رأسهم الوزير جهاد بوكمال.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2055 - الإثنين 21 أبريل 2008م الموافق 14 ربيع الثاني 1429هـ