العدد 2055 - الإثنين 21 أبريل 2008م الموافق 14 ربيع الثاني 1429هـ

تعريب العراق أم عرقنة العرب

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ اليوم في الكويت قمة «دول الجوار» لمعالجة الملف العراقي بعد أن بلغ الذروة في التفكك والانهيار. القمة ليست الأولى التي تعقدها «دول الجوار» إلا أن هذه تعتبر الأهم نظرا إلى الظروف والمستجدات التي طرأت على الملف في السنوات الخمس الماضية. أميركا تمر في فترة انتخابات رئاسية يتنافس المترشحون فيها على مجموعة نقاط يأتي العراق على رأسها. إيران تمر في لحظة زمنية مفارقة بسبب ملفها النووي ونفوذها الإقليمي واحتمال انهيار مشروع التفاوض مع الولايات المتحدة. تركيا أيضا أصبحت في موقع صعب بعد فشلها في تحقيق أهدافها السياسية من تلك العمليات العسكرية المحدودة التي أقدمت على تنفيذها في شمال العراق. سورية بدورها في وضع غير مريح نظرا إلى موقعها الجغرافي الذي يتوسط ثلاثة ملفات حارة (العراق ولبنان وفلسطين) وما تتضمنه من أوراق تتصل بموقع الدولة والمهمات المطروحة عليها في التعاون على احتواء سلبياتها. الأردن بدوره يمر في لحظات غير مطمئنة في حال فشل المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية في التوصل إلى تفاهمات بشأن المستوطنات والسياسة التعطيلية التي تعتمدها حكومة إيهود أولمرت لقطع الطريق على مشروع الدولة. السعودية أيضا في حال يشوبه القلق بسبب التوتر الذي أنتجته الولايات المتحدة على حدودها مع العراق وما أسفر عنه الاحتلال من متغيرات كان لها تأثيرها السلبي على التوازنات الإقليمية. والكويت التي تستقبل «قمة الجوار» أصبحت في الآونة الأخيرة تستشعر تلك الاهتزازات الأمنية التي تمظهرت في فوضى سياسية على حدودها المجاورة للبصرة ومحافظات الجنوب.

كل دول الجوار قلقة من ذاك «النموذج الفريد من نوعه» الذي أسسه الاحتلال في بلاد الرافدين. فالدول التي كانت سابقا مترددة في التعامل مع نظام واحد (مركزي ومستبد) أصبحت الآن مضطرة للتفاهم مع مجموعة «دويلات» تبحث عن هويات وأنظمة تتناسب مع أنقاض دولة قررت الولايات المتحدة لأسباب مجهولة مسحها من خريطة «الشرق الأوسط». والقلق الذي تعيشه دول الجوار ليس مفتعلا في اعتبار أن المنطقة منذ الاحتلال تعاني من سلسلة صعوبات أمنية أو توترات أهلية تولدت في سياق انقلاب منظومة إقليمية ترك تأثيراته السلبية في محيط جيوبوليتكي (جغرافي سياسي) متداخل في تضاريسه السكانية الطائفية والمذهبية والاقوامية.

قلق دول الجوار تتحمل مسئوليته السياسية والأخلاقية والدولية الولايات المتحدة، فهي الطرف الذي ساعد على تأسيس فراغ أمني أدى إلى جذب قوى التطرف وأطلق العنف الأهلي من باطن الأرض. والمشكلة في الإدارة الأميركية أنها لا تعترف بمسئوليتها عن تصنيع هذه الكارثة. فهي تارة تطلق اتهامات باتجاه السعودية وسورية وأحيانا الأردن تحت ستار أنها لا تفعل الشيء الكثير للمساعدة على مراقبة الحدود وضبط الأمن واحتواء الفوضى. وطورا تطلق اتهامات باتجاه إيران وتطالبها بلعب دور في كبح جماح القوى التي ترى أنها تدور في أفقها وإطار نفوذها في جنوب العراق. وبين «التارة» و«الطور» لا تخجل إدارة البيت الأبيض في طلب مساعدة «دولة» انقرضت عمليا وغابت سياسيا عن الساحة بذريعة تشجيعها على النهوض وإعادة الإعمار وإلغاء الديون حتى يقف الاقتصاد على قدميه. والمضحك في الموضوع أن أميركا تطالب دول الخليج بإسقاط ديون (40 مليارا) في بلد يتعرض يوميا للنهب والسرقة وتهريب ثرواته وتحفه تحت رقابة الاحتلال وإشرافه. فالتقديرات الأولية أشارت إلى أن منهوبات العراق من مادة النفط فقط بلغت خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 250 مليار دولار وحبل السرقة يمتد ويقوى يوما بعد يوم.

كل هذه الفضائح تتعامل معها إدارة جورج بوش بوصفها أخطاء عادية وعلى الدول العربية وغير العربية أن تدفع ثمن تلك الأخطاء... ومن لا يساهم في تمويل الكلفة يتحمل مسئولية التقصير والإهمال.

دول قلقة

ماذا تستطيع دول الجوار تقديمه اليوم من مساعدات لترتيب انسحاب مشرف للاحتلال من بلاد الرافدين، مقابل إعادة تعريب العراق؟

فتح سفارات لا يوقف العنف الأهلي في شقيه الطائفي والمذهبي. التبادل الدبلوماسي لا يعطل إمكانات الاختراق الأمني وتكرار مسلسلات الخطف والقتل والحرق والنسف والاغتيال. الاعتراف بحكومة نوري المالكي لا يوحد العراق ويضبطه على قاعدة دولة وطنية تضمن سيادته وهويته. الإعفاء من الديون لا يمنع استمرار السرقة والنهب وتهريب الثروات وتوزيعها على حسابات مصرفية سرية. ودعوة حكومة المالكي للمشاركة في قمة دول الجوار لا يلغي التأثيرات الإقليمية التي تأسست بحكم نشوء فراغات أمنية و«دويلات» طائفية ومذهبية ومناطقية.

الكارثة وقعت وما يزيد من نيرانها وتداعياتها عدم اعتراف إدارة البيت الأبيض بمسئولية اختلاقها. وعدم الاعتراف يعني استكمال سياسة التورط وربما محاولة توريط «دول الجوار» بمشكلات أمنية وحدودية بذريعة مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد في بلاد الرافدين. وهذا يعني الذهاب بعيدا في سياسة العرقنة والابتعاد عن سياسة التعريب.

المشكلة إذا مضاعفة وهي تشتمل على مجموعة خطوط تماس قابلة للاشتعال سواء قررت الإدارة البقاء لمدة 18 شهرا كما يقول المترشح باراك أوباما أو ثلاث سنوات كما تقول المترشحة هيلاري كلينتون أو مئة سنة كما يقول المنافس الجمهوري جون ماكين. والمشكلة الكبيرة أن واشنطن لا تمتلك حتى الآن خطة واضحة بشأن مساحة العراق ومستقبل تلك البوتقة الجغرافية التي أفرغتها من دولتها وثرواتها وطبقتها الوسطى. فالكلام الأميركي يلفه الغموض وغير واضح في رؤيته. والرؤية الوحيدة التي يبرع فيها هي استكمال خوض سياسة تجريبية متعارضة في تعاملاتها. مرة تتهم طهران بزعزعة الاستقرار ومرة تلتقي مع قيادتها في بغداد في اجتماعات «فنية» و «تقنية». مرة تطالب دول الجوار بالتدخل ثم تطلب منها الابتعاد عن العراق وتركه يتحمل مسئولية مصيره من دون غطاء عربي.

هذه السياسة التجريبية التي تنعدم فيها تلك الرؤية الاستراتيجية أربكت حلفاء واشنطن وأوقعت بعض الحلفاء في قلق أمني خوفا على حدوده. تركيا قلقة من نمو دولة كردية تزعزع استقرارها في مناطق الأناضول. الكويت قلقة من نمو دولة فوضوية وغير واضحة الهوية على حدودها ما سيؤدي إلى توتير توازنها الداخلي في حال استمر العبث بالعلاقات الأهلية العابرة لبلاد الرافدين. الأردن قلق بعد أن خسر خط التجارة من العقبة إلى بغداد وبات في حال سياسي يترقب تقلبات الأحوال الأمنية في محيط تتحكم بتوازناته مجموعة شروط مربوطة بمدى نجاح السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في ضمان هيئة دولة تضبط تلك المتغيرات التي تشهدها مناطق على تماس مع «إسرائيل».

لبنان أيضا، البعيد عن الحدود العراقية، دخل منذ فترة ليست قصيرة محطة الانتظار حتى تتمظهر صورة الدولة التي تريد الولايات المتحدة تركيبها في بلاد الرافدين. فالشعب اللبناني يعيش منذ العام 2004 فضاءات دولية وإقليمية متوترة تهدد نموذجه التعايشي بالتفكك على دوائر مناطقية (طائفية ومذهبية) تقارب ذاك المشهد العراقي البركاني.

كل دول الجوار وما بعد الجوار قلقة من ذاك «النموذج الديمقراطي» الذي اخترعته الولايات المتحدة في بلاد الرافدين. واليوم حين تبدأ الدول مباحثاتها في الكويت لابد أن يطرح السؤال الصعب: هل تعرّب القوى الإقليمية العراق أم تعرقن الولايات المتحدة العرب؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2055 - الإثنين 21 أبريل 2008م الموافق 14 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً