من يُرِد أن يفهم الموقف الإيراني من العراق فعليه أن يقرأ. وإن قرأ يلزمه أن يُدقّق. وإن دقّق فعليه أن يربط. وإن ربط فعليه أن يصبر. وإن صبر فعليه أن يهدأ، وإلاّ بارت مساعيه.
من تراكمت لديه الأحداث فقد يتيه. ومن تواضع في لَحْظِهَا فلن يفهم. ومن تيقّن نتائجها فلن يصيب؛ لأنها خط ممتد به كرّ وفر. ولا غرابة في ذلك حين نسمع أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتمنّى لو أنه يفهم نوايا إيران على رغم كونه زعيم دولة كبرى وحليفة للإيرانيين (راجع تصريح بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود في 5 أبريل/ نيسان الجاري). وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول وخليفته كوندوليزا رايس وكذلك رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان لديهم جميعا الانطباع نفسه.
علاقة بحجم هذا التشابك لا يعنيها أن تُقرأ خطأ ما دامت الوسائل المُتّبعة سالبة. الأكثر من ذلك إن تتبّع التصريحات من هنا وهناك من دون اتصال بينها ستكون نتائجه منهكة. وقد يفيد ذلك القارئ من الجنبة «التكتيكية» وليست الاستراتيجية. وهو ما يُمكن قراءته في الموقف الإيراني خلال معركة البصرة بين التيار الصدري وحكومة المالكي مطلع الشهر الجاري.
الإيرانيون صاغوا موقفا من شيعة العراق والعالم حدّده الشيخ رفسنجاني قبل سنين. هذا الموقف تأسّس وفق «تخريجاته» لمعادلة التنوع في عين التضامن والكثرة في عين الوحدة والثبات في عين التعايش (راجع تصريح الشيخ رفسنجاني لصحيفة «اطلاعات» في 16 أبريل 2003). فهي دعمت المجلس الأعلى بعد عودته إلى العراق بواقع 240 مليون دولار سنويا، ودعمت التيار الصدري خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2004 وحدها بثمانين مليون دولار، وحزب الدعوة الإسلامية بخمسة وعشرين مليون دولار وهكذا فعلت مع مُكوّنات البيت الشيعي الأخرى في داخل العراق.
هم يعتقدون (الإيرانيون) أن الجميع حلفاء لهم، سواء أكانوا حلفاء طارئين أم أصيلين. فهم يدعمون حكومة المالكي والائتلاف العراقي الموحّد بزعامة السيدعبدالعزيز الحكيم؛ لأنهم يرون في ذلك ضرورة «عقدية وبراغماتية». فحكومة المالكي تواجه عزلة عربية وإقليمية يتوجّب احتواؤها أو تعويضها على أقل تقدير.
ثم إنها البديل الأنسب بالنسبة إليها ل «درء المفاسد» والوريث الأفضل والأجدى لنظام البعث. فهي التي سمحت للشركات الإيرانية بالنفاذ إلى العراق، واستطابت للبضائع الإيرانية بلا حساب، وحوّلت جزءا كبيرا من تجارتها الخارجية من ميناء العقبة إلى ميناء الإمام الخميني الذي يعتبر أكبر قاعدة تجارية إيرانية قريبة من منفذ شلمجه الحدودي.
طهران تعلم أن لها فرصة سانحة في إتمام الكثير من المشروعات الاستراتيجية مع العراق «عبر حكومة الائتلاف»؛ لتحييد ما أمكن من الصراعات المُغيّبة. بعضها تاريخي وبعضها بفعل الاحتلال. فخط الاتصال بين بغداد وطهران المُزمع إنشاؤه من شأنه أن يربط بين بغداد وديالى وبعقوبة وخانقين وقصر شيرين وكرمنشاه وهمدان؛ مما يعني تكريس حضور الجغرافية وتحويلها إلى جيبوليتك من نوع خاص (راجع تصريحات مدير السكك الحديد العراقية هلال القريشي لإذاعة «العراق الحرة» في 15 مارس/ آذار 2004).
والجميع يعلم أن طهران تُزوّد العراق بكامل احتياجاته الاستهلاكية، وتطبع له الكتب الدراسية، وتُكرّر له النفط، وقدّمت له ملياري دولار قروضا لمشروعات البنية التحتية، مرة إبّان حكومة الجعفري ومرة خلال زيارة أحمدي نجاد للعراق في مارس الماضي.
وأخيرا أعلنت العلاقات العامة للغرفة التجارية المشتركة بين الجمهورية الإسلامية والعراق توقيع مذكرة تفاهم للتعاون الاقتصادي تشمل قضايا تردد الشاحنات والحافلات والقضايا المصرفية والتأمين ومنح التأشيرات المتعددة للتجار والمديرين ودفع المستحقات وحل الخلافات المحتملة بين التجار ومجال إقامة المعارض والندوات والاجتماعات وتبادل الوفود والخبراء ومجال التعليم وتبادل المعلومات والمشاركة في المناقصات والمزايدات المختلفة في البلدين (راجع تصريحات مدير العلاقات العامة والشئون الدولية للغرفة التجارية المشتركة جهانبخش شيرازي).
لذلك فطهران تدعم هذه الحكومة لتكريس حضورها السياسي داخل العراق أمام القوى الأخرى وأيضا في المحيط الإقليمي الذي بات مُقفرا أمامها. ولكنها أيضا - أي طهران - لا تتردّد في دعم التيار الصدري. فهي تدعمه لأنها تدرك قوته الكبيرة داخل العراق. فالذراع العسكرية للتيار والمتمثّلة في جيش المهدي خاض معركتين كبيرتين مع الجيش الأميركي في شهري أبريل 2004، وأغسطس/ آب من العام نفسه.
وبعد قرار زعيم التيار السيدمقتدى الصدر تجميد نشاطات جيش المهدي - في نهاية شهر أغسطس من العام الماضي لستة أشهر، ثم قرار تمديد التجميد ستة أشهر أخرى في الشهر الثاني من العام الجاري - انخفض مستوى العنف ضد القوات الأميركية وفي عموم العراق إلى 60 في المئة؛ مما يعني قدرته على توتير الأجواء أو تهدئتها بالنسبة إلى القوات الأميركية.
قدرة التيار الصدري تعدّت عملية الضبط العسكري والسياسي إلى مسألة الضبط الاجتماعي والديني. فعندما عجزت حكومة المالكي عن التصدي لجماعة المهدوية وجند السماء بزعامة ضياء عبدالزهرة كاظم الكرعاوي والملقّب بـ «أحمد بن الحسن البغدادي اليماني» استطاع جيش المهدي القضاء عليها في البصرة وكربلاء المقدسة وفي معركة الزركة شمال النجف الأشرف نهاية شهر يناير/ كانون الثاني 2007، والقبض على أكثر من 1500 من أتباعها. وكذلك الحال فعل مع «القاعدة».
في الجانب الإنساني بقي التيار الصدري وذراعه العسكرية (جيش المهدي) نشطا في الأوساط الفقيرة والمُعدمة؛ بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة بتقديمه المأوى والغذاء والسلع غير الغذائية حتى المُرتّبات إلى مئات الآلاف من العراقيين على غرار تجربة حزب الله لبنان، الأمر الذي كرّس حضوره الاجتماعي في ظل غياب الخدمات الحكومية (راجع التقرير الأخير لمنظمة ريفيوغيز انترناشيونال الدولية المعنية بشئون اللاجئين).
لذا، إن بقاء التيار الصدري بكامل عافيته «المُقنّنة» هو ورقة جيدة داخل المسطرة الشيعية في العراق بالنسبة إلى الإيرانيين والعراقيين إن أحسنوا العلاقة معه، ولكن ما يُقلق إيران في الموضوع أن تنفرط عرى المعادلة القائمة بين حلفائها في العراق والقائمة على نشاط شيعي متباين ولكنه متوازٍ. فهي تحرص على أن يظل السيدعبدالعزيز الحكيم وحكومة المالكي والائتلاف عموما منهمكين في العمل السياسي السلمي، ويظل الصدر ناشطا في العمل العسكري.
هذا القلق بدا واضحا في معركة البصرة الأخيرة (راجع خطبة الجمعة لآية الله أحمد جنتي في 28 مارس الماضي). هي تريد للحكيم أن يكون قويا في الحكومة، ولكنها أيضا لا تريد للصدر أن يكون ضعيفا في مناوشاته ضد القوات الأميركية. هي تريد أن يبقى الصدر قادرا على إدارة اللاسلم مع الأميركيين، ولكنها أيضا لا تريد له إلاّ أن يكون ضعيفا في مواجهة الحكيم وحكومة المالكي، وهي سياسة لا أظنّ أن أحدا يفهمها إن لم يكن مُدركا لمجمل الظروف المحيطة؛ لأن الإيرانيين يُميّلون الكفّة حينا إلى هنا وحينا إلى هناك؛ ضبطا للإيقاع.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2054 - الأحد 20 أبريل 2008م الموافق 13 ربيع الثاني 1429هـ