أرى عجبا في العراق. فمنذ إقرار البرلمان العراقي للاتفاقية الأمنية مع واشنطن، ونحن نرى المدن العراقية تُطبخُ يوميا في مَرقِ التفجيرات الإرهابية. واحدٌ في مدينة الصدر وآخر في الفلوجة وثالث في كركوك ورابع في ديالى.
كتحصيل مُفترض هو أن يكون العراق أكثر أمنا طبقا لهذه الاتفاقية. هي لم تُغادر صغيرة ولا كبيرة في العراق إلاّ وأحصتها، فكيف يحصل العنف إذا؟ الأمر يبدو غريبا.
في أمر العراق يُحَارُ المرء. بعض الأحزاب العراقية رمت بِخَيارها في المربّع الأميركي، وكان ذلك أصل الإشكال مع الجميع وبين الجميع، حتى بدأت المعالجات المناكفة لذلك الإشكال تأخذ صورا شتّى.
بعضهم أرخى الحبال للقاعدة لكي تعيث فسادا في الأرض. فبدأت حرمة الدم العراقي تُستباح بشكل أرعن. فلم يسلم رجل ولا امرأة ولا شيخ ولا شاب ولا صبي من احتساء البلاء. فزاد ذلك من التصاق الأميركي بحلفائه في العراق والعكس.
بعضهم (دول عربية) جَانَبَ العراق سياسة واقتصادا وأمنا وثقافة وتجارة. فضاقت خيارات الحُكّام الجُدد بأنفسهم وبجوارهم وفي أرضهم، وازداد حَنَقُهُم تجاه العرب لحدّ التشفّي. فزاد ذلك أيضا من شرعية خيارهم الأول، وهو الاحتماء بالأميركي أولا وأخيرا ونقطة على السطر.
من أرخى للقاعدة الحبل اكتوى من نَزَقِها وزَنِيْمِها. فحاق به ظلمها وحيفها وتقسيماتها وتفسيراتها الضيقة. فبدأ في قتالها بنفس الحدّية التي كانت تُعْمِلها هذه الأحزاب تجاه الأميركي.
ومن جَانَبَ العراق من الدول العربية. توصل إلى أنه قد أساء التقدير حين رأى غُرماء الأمس من الإيرانيين والأتراك قد ملؤا الفراغ «العربي» فيه. وأصبحوا يجاورونهم صدرا بصدر. وهذه معضلة يرونها في أمنهم القومي.
اليوم ليست المشكلة في تينك الأمرين. لأن القاعدة في العراق تتمايل بسبب الأكلاف الباهضة التي دفعتها. والعرب موالاة يسيرون بسفرائهم إلى المنطقة الخضراء. بعضهم بضغط أميركي وبعضهم طمعا في نفطه.
وإنما المشكلة هي في وعي العراقيين وفي مداركهم السياسية. هم مكلومون حتى شحمة الأذن بفعل نظام صدام، ورغم أن هذه مأساة يتوجّب أن يتلقّوا العزاء فيها إلاّ أنها حولتهم إلى أناس يضربون في السياسة بلا دراية حبا في الانتقام والتحصّن وفقط.
في كل مرة تتحدث فيها إلى سياسي عراقي لن تسمع أكثر من أن العراقيين أدرى بشئونهم. وأن العرب لم يجلبوا للشعب العراقي سوى الدمار. والإشكال ليس في عتبهم ذاك لأنه صحيح، وإنما في إطلاقهم غير المقيّد وفي خلطهم للأمور.
فمن ينصحهم اليوم بالابتعاد عن خيارات الأميركي ليس دولا عربية. وليس أحزابا خارجة عن نسقهم. وإنما هم مراجع تقليد وجماعات وأحزاب دينية ويسارية تأكل معهم من نفس الزاد العقائدي والفكري. وتتشاطر معهم في التاريخ وفي مفاصله وهمومه.
وبالتالي فإن الخلط ما بين الاحتماء بالمظلومية جرّاء مواقف عربية سابقة وبين ما يجري اليوم على أيديهم مع الأميركي هو خلط أعوج. ينمّ عن إصرار على الإخلال بمسار العقيدة والتاريخ وحتى السياسة.
في عالم اليوم لم تعد العلاقة مع واشنطن شيئا حسنا، فكيف بها إن أصبحت علاقة ذات مسار تحالفي فاضح. نحن لا نقول ولا ندعو إلى فكّ العلاقة مع الولايات المتحدة لغرض العلاقات العامة والظهور أمام الرأي العام العالمي بأنكم ضد سياستها لكي تأمنوا النقد الشعبي.
نحن نقول بأن فكّ الارتباط هو مسئولية سياسية في قِبَال مشاريع احتلال لا جدال حولها. فإن لم يقبلوا بمعالجة الأمر بمنطق الحقوق التاريخية للشعوب فليس من حقهم منع الآخرين من استخدام المنطق المذكور ولو برمي فردة حذاء على جورج بوش
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2295 - الأربعاء 17 ديسمبر 2008م الموافق 18 ذي الحجة 1429هـ