العدد 2295 - الأربعاء 17 ديسمبر 2008م الموافق 18 ذي الحجة 1429هـ

«الشرق الأوسط» من «الأمركة» إلى «التدويل»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل أكثر من شهر على مغادرته البيت الأبيض بدأ الرئيس الأميركي جورج بوش سلسلة تحركات على مستوى الأمم المتحدة تستهدف إعادة التذكير بتلك الملفات الساخنة التي تقلق الأمن وتزعزع الاستقرار في منطقة «الشرق الأوسط الكبير». فالتحركات جاءت متأخرة ولكنها محاولات تؤشر إلى نقاط يمكن أن يعتمدها الرئيس المنتخب قواعد عمل لإدارته المقبلة.

مجلس الأمن بصدد مراجعة أربعة ملفات تبدأ بالمسألة الفلسطينية ومشروع السلام وتنتهي بأفغانستان وخطة تعزيز القوات الدولية لاحتواء شبكات العنف وخلايا «القاعدة». وبين فلسطين وافغانستان هناك الاستثناء العراقي، إذ سيتعرض أعضاء المجلس إلى موضوع العراق والخطوات القانونية المطلوبة لنقل ملفه بشكل معاكس من تحت المظلة الدولية إلى اتفاقية إطار أمنية ثنائية بين حكومة العراق والولايات المتحدة. كذلك ستتناول جلسات المجلس الملف النووي الإيراني ومستقبل العلاقات بين طهران والعواصم الدولية ودور إيران الإقليمي ونفوذها المحتمل نموه في العراق ومحيط دول الجوار. فالملف الإيراني يرجح أن تتصاعد أوراقه باتجاهين الأول توضيح صورة العلاقات بين طهران وواشنطن في الدائرة العراقية والثاني تشكيل خطوط تفاهم على الموقع الإيراني في دائرة الخليج. وفي الاتجاهين يحتمل أن يتقدم ملف الخليج خطوات عملية تحت سقف التدويل.

الملفات الأربعة قد تكون بداية مرحلة تحاول فيها الإدارة الأميركية نقل النقاط الساخنة من نطاقها الأميركي إلى إطار دولي تعطي المجال للدول الكبرى والقوى الإقليمية أن تبحث معها عن معالجات وحلول عجزت منفردة عن احتواء عناصرها المتفجرة. فالخطوات التي أخذت تعتمدها إدارة بوش قبل أربعة أسابيع من مغادرتها واشنطن تشكل إشارات سريعة على وجود رغبة في التفاوض على نقل الملفات باستثناء الموضوع العراقي، من «الأمركة» إلى «التدويل». وعملية الانتقال هذه في حال استمرت من دون عقبات أو عثرات تعتبر حاسمة في خطواتها الانعطافية بعد سنوات من الإصرار على سياسة التفرد ورفض المشاركة.

حتى الآن تبدو إدارة بوش المتهالكة والمنتهية ولايتها مستعدة لتقبل ما كانت ترفضه سابقا، وهي بهذا الصدد اتجهت أمس الأول إلى الموافقة على مشروع القرار 1850 الذي صدر عن مجلس الأمن بشأن المسألة الفلسطينية وتفرعاتها السياسية والإقليمية. فالقرار الجديد أعاد التذكير بالقديم وأضاف بعض النقاط المهمة حتى لو جاءت متأخرة في توقيتها. القرار مثلا لفت الانتباه إلى أهمية «مبادرة السلام العربية للعام 2002». وجدد أيضا التزامه الاستمرار «في مسيرة المفاوضات الثنائية» ولم يمانع كذلك في الترحيب بتوسيع نطاق مباحثات السلام التي ابتدأت في انابوليس في العام 2007 واستكمالها في موسكو في العام 2009.

المهم في القرار 1850 ليس تلك النقاط الإضافية التي أدخلت إلى عملية السلام في وقت متأخر وإنما الروحية التي أحاطت سياسة إدماج القوى الكبرى الأخرى في إطار البحث عن صيغ مرنة لفقرات القرار. وهذه النقطة الشكلية تعتبر في الجوهر تراجعا أميركيا وخطوة في سياق التصالح مع أعضاء مجلس الأمن. فإدارة بوش كانت ترفض حتى خلال فترة التحضير لمؤتمر «انابوليس» الاعتراف بوجود قوى أخرى لها الحق في التدخل من موقع الشريك الدولي في معالجة قضية إقليمية. كذلك رفضت خلال السنوات السبع الماضية الاعتراف بوجود مبادرة سلام عربية وردّت عليها بهجمات معاكسة كما حصل بعد إقرارها رسميا في قمة بيروت. حتى فكرة «الدولة الفلسطينية» التي تذكرتها إدارة بوش في العام 2007 كانت محط اعتراض من واشنطن ما أدى إلى إعادة احتلال الضفة والقطاع ومحاصرة ياسر عرفات في مقر الرئاسة في رام الله وصولا إلى تحطيم السلطة الفلسطينية وتقسيمها وإضعافها وتوزيعها على حكومتين.

أمركة وتدويل

الآن كما يبدو بدأت إدارة بوش قبل رحيلها تفكر وتخطط للانتقال من «الأمركة» إلى «التدويل» بعد أن فشلت في احتواء الأزمات ومعالجتها منفردة وعنوة. وهذه السياسة تعتبر جديدة نسبيا ولافتة في ألغازها من حيث التوقيت أو من جهة صوغ القرارات وإخراجها بسرعة من أروقة مجلس الأمن.

القرار 1850 بداية وستعقبه مجموعة خطوات تذهب باتجاه «التدويل» وتخفف ثقل المسئولية الفردية عن الولايات المتحدة. وهذا الاحتمال بحد ذاته يشكل إشارة سياسية تحتاج إلى متابعة ومراقبة من عواصم القرار الدولية والإقليمية. فالخطوات تتطلب قراءة للأسباب والدوافع والمراهنات وهل هي فعلا محاولة من بوش لتسهيل مهمات الرئيس المنتخب أم بداية اعتراف رسمي بالعجز الأميركي عن مواصلة أنشطة تبين أنها أكبر من قدرة الولايات المتحدة على تحمل أثقالها وتداعياتها؟

هناك أكثر من زاوية يمكن الإطلال منها لرؤية المشهد الأميركي في فترة انتقالية. من جانب يمكن قراءة خطوات بوش أنها محاولة للتوفيق بين التصور الأميركي والرؤية الدولية تحت سقف مشترك يتجه نحو المقاربة وصولا إلى المشاركة في طور لاحق. وهذا الجانب من القراءة يؤسس معادلة أميركية داخلية تخفف المسئولية الدولية عن الولايات المتحدة وتعطي المجال للأطراف الكبرى الأخرى للتدخل تحت سقف دولي محكوم بالتصور الأميركي. ومن جانب يمكن قراءة خطوات بوش أنها محاولة لتقنين تحركات باراك أوباما المفترضة وضبط خطواته المحتملة بقرارات دولية مشروطة وفقرات محددة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها. وهذا الجانب من القراءة يتجه نحو وضع سياسة أوباما الخارجية في إطار مبرمج دوليا وتتحكم في آلياته سلسلة قرارات صادرة بالإجماع عن مجلس الأمن.

الزوايا كلها تشير إلى وجود ضوابط أميركية يراد وضعها تحت سقف تصورات دولية تمنع أوباما من كسرها أو الخروج على قوانينها المشتركة في حال قرر اتباع سياسة مغايرة أو مخالفة سواء على مستوى ملفات فلسطين والعراق وإيران وافغانستان أو على مستوى ملفات أخرى مستحدثة كالصومال والسودان والقرن الإفريقي والقرصنة.

لذلك يمكن اعتبار القرارات الدولية التي صدرت ويتوقع أن تصدر تباعا خلال الأسابيع الأربعة التي تسبق خروج بوش من البيت الأبيض أنها محاولة سياسية تؤشر على اتجاهين متعارضين. فمن جانب هي بداية اعتراف بفشل التفرد الأميركي والاستعداد للعودة إلى مفهوم الشراكة الدولية، ومن جانب هي قراءة استباقية تريد رسم خريطة طريق دولية - أميركية لسياسات مشتركة لابد أن يعتمدها أوباما بعد تسلمه مقاليد السلطة في 20 يناير/ كانون الثاني المقبل.

هذا الأمر لا يعني أن السياسة الأميركية في عهد بوش لم تكن مدولة إلا أن الموضوع المراد التوصل إليه هي زيادة درجة التدويل في السياسة الأميركية قبل انتهاء فترة الإدارة الحالية. وسياسة التذكير بالملفات الساخنة التي أعتمدها بوش قبل شهر من توديعه البيت الأبيض تصب في الإطار المذكور. فهي جاءت متأخرة لكنها تؤشر إلى نقاط لابد من أن يعتمدها الرئيس المنتخب قواعد عمل لإدارته المقبلة. فالخطوات الأخيرة تدل على وجود تراجع أميركي في إطار التكيف مع المنظومة الدولية وهي أيضا تشير إلى «ضربات» استباقية تحاول أن تفرض على أوباما قراءات محددة بالنصوص والفقرات الملزمة التي لا يستطيع تجاوزها أو تجاهلها حين يبدأ بممارسة مهماته الداخلية وأنشطته الخارجية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2295 - الأربعاء 17 ديسمبر 2008م الموافق 18 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً