لأنّ كل ممنوع مرغوب، ومقروء، ومفضل، صار انتشار أيّ مقال أو تقرير مضمونا بين الناس إذا كانت عبارة « مُنع من النشر» في صحيفة أو مطبوعة ما تتقدمه. فكم من مرة انتشر مقال لكاتب ما، عبر البريد الإلكتروني فقط؛ لأنه كان يُذيّل بعبارة «مُنع من النشر»، وربما لو كان المقال منشورا بالفعل لما حصل على الشعبية التي حصل عليها بعد أن « تم منْع نشره».
كثيرا ما هيئت مسألة المحاذير التي توضع على حرية التعبير وعلى الكتّاب والصحافيين، على الرغم من استهجان وجودها بالأساس، بيئة خصبة للكثيرين لخلق بطولات تعتبر أحيانا مصطنعة، سواء جاءت بتقصّد منهم، أم من الجمهور الذي تعوّد أنْ يكون فضوليا ليس ليعرف ما ينشر، وهو المتاح والطبيعي، وإنما ليعرف ما لا يُنشر، وهو «السر الغامض غير المتاح»، فهو يريد أنْ يعرف السبب في عدم نشره، والخلفيات وراء ذلك، وغرض الكاتب الذي يصبح في هذه الحالة فقط بالنسبة إليه بطلا لحرية الكلمة. فجملة واحدة تحذف من مقال بمقص الرقيب قبل نشره أهم لدى القارئ من المقال كلّه الذي نشر وقرأه الكثيرون وأثر فيهم. ومقال ينشره صحافي على مدوّنته الإلكترونية ليقول بأنه مُنع من نشره في صحيفته، أهم من عشرات بل مئات المقالات التي نشرها الكاتب نفسه الصحيفة نفسها عن موضوعات ربما أشد حساسية.
لعلنا نوجه سؤالا هنا، المحاذير وسقف حرية التعبير في مجتمعنا واضحة – تقريبا- ويعرفها الذين يمتهنون مهنة الكتابة الصحافية، و الضغط لإعلاء السقف قائم بالفعل من قبل كثير من الكتّاب الذين طرقوا ولا يزالون موضوعات لم نكن نحلم أنْ تتم الكتابة عنها، بتلك الصراحة والوضوح. في هذه البيئة، هل من «الشطارة» أنْ يمنع مقال ما من النشر؟ الكاتب يعلم مسبقا ما هو الممنوع وما هو المسموح- إجمالا-، ويعلم عندما يكتب مقالا ما عن موضوع بعينه إلى أي مدى يمكن أنْ يتم قبول نشر هذا المقال في مؤسسة إعلامية بعينها. أليست «الشطارة» الحقيقية هي أنْ ينشر المقال، وليس أنْ يمنع، فالنشر هو القاعدة وليس الاستثناء. أنْ تنشر مقالا ما، وتوصل فكرة ما تريد أنْ تقولها للقارئ بذكاء، ملتفا على القيود والحدود، متواريا خلف الكلمات، ليصل المقال بأمان إلى طريقه للنشر، فهذا ما يستحق التقدير والانتشار. وإلا فإنّ مئات المقالات التي تصل للصحف يوميا تمنع من النشر، سواء كتبها قرّاء أو كتّاب، وبغض النظر عن سبب منع النشر، هل هو أسلوب المقال أو ما يتضمنه، فقد تسبب ذلك في منعها من النشر في النهاية. أي قطع الطريق أمامها لأي انتشار أو تأثير، والتأثير هو الغرض الرئيسي من وجود وسائل الإعلام بالأساس.
لا نقول ذلك كلّه « تقديسا» لدور مقص الرقيب أيا كان، وإنما إيمانا بأمر واقع لا يمكن مواجهته مباشرة، ولكن يمكن الالتفاف عليه بذكاء وحذر، من أجل تحطيمه. كثيرا ما ينتقد القرّاء وسائل الإعلام في عدم ذكرها أشياء بعينها وأسماء بعينها صراحة، وهم يعلمون أنّ الواقع صعب للغاية، فلا القانون ولا المجتمع ولا حتى الجهات الرسمية ستدعم «السلطة الرابعة» لو قامت بهذه الخطوة. ولو فعلتها فستجر على نفسها الويلات؛ لينتهي دورها المتواصل في النهاية، وهي ليست طريقة مواجهة « ذكية» و « عملية». أليس الأجدى أنْ تستمر الصحافة في الحفاظ على توازنها على ذلك الحبل الرفيع، لكي تصل هي والمجتمع إلى بر الأمان، لا أنْ تقطع هذا الحبل في منتصف الطريق سعيا لتحقيق البطولات الآنية.
هذا ما يحاول الجميع فعله، السير مع التيار وليس عكسه، ولكنه سير يحاول تصحيح المسار شيئا فشيئا، مقدرا كل الظروف المحيطة. قد يواجه أثناء هذا السير عقبات كبيرة، وقد يمنع مقال كتبه بعد دراسة حثيثة لواقعه بالفعل من النشر، بأوامر من أعلى، لكنه سيحاول من جديد بطرق أخرى إيصال فكرته. لأنّ هذا هو هدفه، وليس أن يكون بطلا.
إقرأ أيضا لـ "ندى الوادي"العدد 2052 - الجمعة 18 أبريل 2008م الموافق 11 ربيع الثاني 1429هـ