حمل أحد الزملاء بقسم الأخبار الدولية صورة لسريرين عليهما إشارة الهلال الأحمر يجرهما حمار، على السرير الأول طفل مسجى وقد لُفّ رأسه بالشاش المغمور بالدماء، بينما جلست في السرير الثاني طفلةٌ في سن الروضة، وقد غطى الشاش الأبيض عينها اليسرى.
في خلفية الصورة ستشاهد قافلة طويلة من الأسّرة التي تنقل الجرحى وتجرها الحمير، بعد أن نفد الوقود وتعطّلت المركبات وشُلّت الحياة في قطاع غزة المحاصر بإحكام منذ عام. وبينما بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين قبل ليلتين 17، فإن الرقم وصل إلى 21 حتى وقت كتابة المقال. وتأتي هذه التطورات بعد يومين فقط من تشريف وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني للعاصمة القطرية (الدوحة).
في العاصمة القطرية، قُوبلت ليفني بالكثير من الضحكات والابتسامات، وأطال بعض الوزراء العرب مصافحتها حتى كانت هي التي تسحب يدها الناعمة من أيديهم، وحرصوا على التقاط الصور التذكارية لهذا الحدث التاريخي الذي يقدمونه دليلا إضافيا على خياراتهم الاستراتيجية في انتهاج «سلام الشجعان»! ولأنها كانت «ضيفة شرف» على «منتدى الديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة»، ارتأت أن تلقي محاضرة لتعليم وفود الدول العربية أسس الديمقراطية، التي تمارسها يوميا في قطاع غزة والضفة الغربية.
وكالات الأنباء نقلت أن وزيرا قطريا داعبها بقوله إن مجيئها تسبب في غياب سبعة وزراء عرب وليس وزيرا واحدا أو وزيرين، وهو ما يدل على «غلاوتها» و«معزّتها» عندنا في الخليج... فوزيرةٌ إسرائيلية واحدةٌ أغلى وأعز من سبعة وزراء عرب ببشوتهم وشماخاتهم ومسبحاتهم المصنوعة من أنفس الأحجار الكريمة! ومن أجل عينٍ تُهان ألف عين!
وفي زمنٍ لم تعد فيه هناك أسرار، ولا سياسيون يستعينون على أمورهم بالكتمان، أضحى اللعب على المكشوف، فتحدّثت الوزيرة الإسرائيلية الشقراء إلى أصدقائها مباشرة، ومن دون لف ودوران، فالصراحة راحة وخصوصا بين الأحباب والحلفاء: «عليكم أن تصطفوا معنا في خندق واحد ضد إيران، فهي عدوكم الأكبر واعتبرونا من اليوم أصدقاء، وهذه كلمة (رجّالة) مش نسوان»!
طبعا لم تنقل الوكالات أن وزيرا عربيا واحدا وقف لها ليقول: «يا ست الكل، يا حبيبتي، لكن إيران ليست هي التي تحاصر غزة ومنعت عن أطفاله الحليب وعن رجاله ونسائه الدواء والغذاء».
لم يقف رجل عربي واحد في الدوحة ليقول لها: «يا عمري، يا عيوني، ليست إيران هي التي تشن طائراتها (الأباتشي) غارات يومية على مخيمات اللاجئين فتحوّلهم إلى أشلاء وشظايا محترقة».
في الدوحة لم يقف رجلٌ عربيٌ واحدٌ ليقول لها: «يا سيدتي، يا حياتي، يا خلف عمري... لكن إيران لم تسجن ياسر عرفات ثلاث سنوات في مبنى المقاطعة برام الله، وأنهت حياته اغتيالا بالسم. ولم تفجّر شيخا مقعدا في حجم اللقمة على كرسي متحرك بدم بارد، خرج لأداء صلاة الفجر، حوّلته إلى كتلة من اللحم المحروق، وخرجت وسائل إعلامها الديمقراطية متفاخرة بهذا الانتصار التاريخي العظيم».
في الدوحة لم يردّ عليها أحد، بل صفّقوا لها طويلا، وهشّوا وبشّوا لها كثيرا، بحسب أصول الضيافة والكرم العربي العريق!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2051 - الخميس 17 أبريل 2008م الموافق 10 ربيع الثاني 1429هـ