العدد 2051 - الخميس 17 أبريل 2008م الموافق 10 ربيع الثاني 1429هـ

الجماعات المسلحة والعنف الأهلي ضد دولة النخبة

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (6)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انطلقت الجماعات الإسلامية للجهاد ضد انقلاب دولة النخبة على نتائج الانتخابات الجزائرية في وقت كانت ترفضها وترفض الاحتكام لنتائجها وتسخر من مقولات الخيار الديمقراطي. واتجهت الجماعات إلى الرد على عنف السلطة بعنف مضاد واستدرجت بعض اتجاهات جبهة الإنقاذ إلى مواقعها وصفوفها، بينما صمد الشيخ نحناح والأستاذ جاب الله على موقفهما.

في المقابل تطورت مواقف جماعات الجهاد المسلح وتناقضت أخيرا مع أقرب الإسلاميين إليهم، وصولا إلى حد المواجهة الدموية وقتل العشرات منهم لمجرد حصول اختلافات في وجهات النظر أواعتراضات من قبل الإسلاميين على أساليب مكروهة وغير مستحبة دينيا في معاملة الخصوم. وبسبب مراوحة مواقف الجماعات الجزائرية المسلّحة بين رفض الانتخابات كخيار سياسي للسلطة وبين رفض الانقلاب على نتائج الاقتراع تأرجحت سياستها بين عزلتين: عزلة الناس وعزلة العنف.

أدى إقدام بعض تلك الجماعات المسلحة على ممارسة العنف المقلوع من سياقه التاريخي إلى تطوير ممارسته ضد أقرب أنصاره من الاتجاهات الإسلامية، وأدى خلط بعض تلك الجماعات بين حقه في الدفاع عن نتائج الانتخابات وغير شرعية بعض الممارسات العنيفة إلى تخبط تياراته السياسية، فضاعت بوصلة الضوابط التي ينص عليها الشرع من نواحي معاملة الأسرى والمدنيين، فاستفادت النخبة المستبدة من تلك الثغرات لتبرير منهجها القمعي والانقلابي وتغطية جرائمها ضد الناس والأبرياء. هذا الانقلاب على الذات يُولد عادة من «العالم المغلق» الذي تعيشه بعض الجماعات المسلحة ويعبر عن نفسه بالأسماء المستعارة والعناوين المجهولة ويؤسس مع الوقت آليات داخلية لا ترى حولها ولا تنظر إلى محيطها، وهو أمر يدفع تلك الآليات إلى إنتاج سياسات معزولة وغير واعية تعكس في النهاية خصائص ذاك العالم المنطوي على نفسه.

تؤكد افتتاحية «الفجر» منهج الجهاد بصفته الوسيلة الوحيدة للتغيير وهو «المظلة العامة التي تنضوي تحتها فصائل العمل الجهادي». وتحذر من أي انحراف «ولو قيد أنملة على هذا المنهج» لأنه «صار يمثل اليوم الأمل الوحيد في العودة بالمسلمين إلى عز القرون الماضية». وتشرح النشرة في مقال غير موقع تحت عنوان «التوقف من أجل التصحيح... خطوة راشدة» أسباب سحب «تأييدها لقيادة الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر نتيجة لتجاوزات شرعية ومنهجية تراكمت واحدة تلو الأخرى حتى أصبحت تشكل بمجملها منعطفا خطيرا في طريق الجهاد بديار الجزائر ضد النظام المرتد هناك». واعتبرت «الفجر» أن قيام «التيار الجهادي التغييري بخطوة تصحيحية في داخله» هو عمل فريد من نوعه و «يدل دلالة واضحة على نضج هذا التيار وقدرته على عملية التصحيح من الداخل ومواجهة الانحرافات الداخلية بكل شجاعة». ( نشرة الفجر العدد 16 الصادر في صفر 1417 /1996).

نشرت «الفجر» بيانات الجماعة الإسلامية المقاتلة (ليبيا)، وجماعة الجهاد (مصر)، وأبوقتادة الفلسطيني، وعُمرعبدالحكيم (أبومصعب السوري) التي صدرت دفعة واحدة يوم الخميس 20 محرّم 1417 هجرية الموافق 6 يونيو/ حزيران 1996 وتدين تجاوزات الجماعة المسلحة في الجزائر «بعد تولي أبي عبدالرحمن أمين لإمارة الجماعة» إذ «سفكت دماء لم يبين الوجه الشرعي المقنع في استباحتها»، وهذا ما «حصل في قضية الشيخ محمد السعيد وعبدالرزاق رجام وغيرهما وقتل أناس تقر الجماعة المسلحة بصدق توبتهم كالأخ عبدالوهاب لعمارة - رحم الله الجميع - وأباحت الجماعة لنفسها قتل كل من خرج عن الجماعة ولو لم يعمل على شق الصف». وكرر «أبوقتادة» الملاحظات نفسها في بيانه وذكر أن الجماعة المسلحة في الجزائر أباحت سفك «الدم الحرام بلا تأويل صحيح ودون مراعاة لضوابط الشرع». ويتهم بيان عمر عبدالحكيم (أبومصعب السوري) أمير الجماعة المسلحة في الجزائر أبا عبدالرحمن أمين باستباحة «الدماء المحرمة وإشاعة الأفكار الغالية في هذا الشعب المسلم الطيب حيث أخذت تتجمع مؤشرات مريبة عن المنهج الذي عرفناه وآمنا به ودعونا إليه جهادا في سبيل الله».

توفر بيانات قادة الجهاد والجماعات الإسلامية الكثير من الجهد لتوضيح صورة الموقف الذي آلت إليه الجماعة المسلحة في الجزائر، وهي في النهاية صورة مفزعة ومخيفة ليس للناس البسطاء فقط بل إنها أخافت جماعات الجهاد أيضا وأرعبتهم وخصوصا عندما وصلت السكاكين وطالت أبرز قادة العمل الجهادي وأئمة الجماعات الإسلامية في الجزائر، حين تفاقم النزاع الدموي بين المجموعات الجزائرية المسلحة إثر انقسامها إلى فرق صغيرة متناحرة. ونشرت «الحياة» في عددها الصادر بتاريخ الأحد 28 يوليو/ تموز 1996 بيان «الجماعة الإسلامية المسلحة» وذكرت أن أميرها جمال زيتوني (أبوعبدالرحمن أمين) قتل جنوب غربي العاصمة وعينت عنتر الزوابري (أبوطلحة) أميرا جديدا لها. واتهم البيان جماعة «الجزأرة» بنصب كمين أدى إلى مقتل ثلاثة أعضاء من الجماعة. وأطلق البيان على الجهة المنافسة صفات «المبتدعة» و «المارقين» وغيرهما من التسميات.

الدولة والعنف

لم يقتصر العنف في الجزائر على بعض الجماعات الإسلامية المسلحة، فانفجار العنف تتحمل مسئوليته أصلا الدولة (النخبة) التي صادرت المجتمع قرابة ثلاثة عقود ثم انقلبت على خياره السياسي عندما جاءت الانتخابات التعددية في يونيو/ حزيران 1990 وديسمبر/ كانون الأول 1991 غير متوافقة مع استبداد السلطة. فالانقلاب بدأ في الدولة وانتقل ضد المجتمع وتحولت النخبة الحاكمة إلى قوة قهر طالت مختلف الأقاليم والجهات والجماعات. وعندما شعرت الدولة أن انقلابها على الناس تكلل بالنجاح اتجهت نحو المزيد من التطرف وانتقلت من محاصرة عنف الجماعات المسلحة إلى محاصرة المجتمع وأعادته مرة أخرى إلى «سجن السلطة» انطلاقا من فكرة مراجعة دستور 23 فبراير/ شباط 1989 وهو الدستور الذي صدر أساسا استجابة لانتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 1988 الجزائرية.

لا تتردد المراجعة في الإكثار من استخدام مفردات متناقضة فهي من جهة تؤكّد الديمقراطية والتعددية والحريات العامّة وتواصل من جهة أخرى تأكيد ضرورة الإجماع السياسي وتوحيد الطبقة السياسية وتقارب وجهات النظر في إطار منسجم. ولم تنتبه الجهة التي أشرفت على صوغ المراجعة, التي اشتملت على 97 مادة قانونية، أن التعددية والديمقراطية تعنيان أصلا الاختلاف السياسي وتنوع وجهات النظر وعدم انسجام الطبقة السياسية في توجهها العام والخاص، وبالتالي فكل من يخالف تلك الأصول الديمقراطية لا يمت بصلة للتعددية والحريات العامّة.

مراجعة مواد المذكرة التي نشرتها صحيفة «السلام» في عددها الصادر في13 مايو/ أيار1996 تكشف أنّ المنحى العام للدولة الجزائرية هو الاتجاه نحو تعزيز صلاحيات السلطة الرئاسية والتنفيذية وتقليص صلاحيات السلطة التشريعية والقضائية بوضع هيئات أعلى أو مجاورة تنافس أو تقتنص من مسئوليات البرلمان والقضاء. فالمادة 25 تنصّ على «إمكانية قيام رئيس الجمهورية المنتخب بالتشريع عن طريق الأوامر في بعض الأوضاع الخاصة التي ينبغي توضيحها بدقة». وتنص المادة 26 على اعتماد «مبدأ ضرورة مواصلة تسيير الحكومة الشئون العادية في حالة حل الهيئة التشريعية» ولا يمكن أنْ تُقال الحكومة إلاّ بعد إجراء انتخابات جديدة تنتقل خلالها صلاحيات المجلس الدستوري إلى رئيس الحكومة. وتنص المادة 27 على إحداث «غرفة ثانية إلى جانب المجلس الشعبي الوطني، يمكن أنْ تدعى مجلس الأمّة (...) وتكون الغرفتان بذلك البرلمان».

المادة 30 تنصّ على «إحداث جهاز جديد على رأس هرم القضاء الإداري. ويدعى هذا الجهاز، عند الاقتضاء، مجلس الدولة». وتدعو المادة 36 إلى «ضبط الإطار العام والمعالم التي تحكم نشاط الأحزاب السياسية». وتمنع المادة 37 «أي استغلال حزبي لمجالات في غاية الأهمية، كقانون الإعلام، وقانون المالية، وقانون الانتخابات، وقانون الأمن الوطني». وتستثني المادة 43 «عناصر التراث المشترك بين جميع الجزائريين والمتمثلة في الإسلام والعروبة والأمازيغية التي تشكل المكونات الأساسية الثلاثة للهوية الوطنية» من المنافسات السياسية والصراعات الحزبية. (صحيفة «السلام» الجزائرية، 13 مايو1996، مذكرة الرئيس الجزائري).

حتى تكتمل حلقة المراجعة وتخنق الدولة حريات الناس المدنية والأهلية نصت المواد المتعلقة في مجال إنشاء الحزب السياسي على شروط غير «ظريفة» من نوع تحديد مواصفات رئيس الحزب «من أجل تحقيق الانسجام في العمل السياسي» واشتملت على شروط ومقاييس مطلوب توفرها «في الأعضاء المؤسسين للأحزاب السياسية»، بعدها تنتقل المادة 47 إلى وضع مسارات تدريجية لتأسيس الحزب «يتضمن مرحلة تجريبية في حدود سنة واحدة على الأكثر» يتم خلالها حصر حركة المؤسسين بالأنشطة التنظيمية المتصلة بتحضير «عقد المؤتمر التأسيسي» للحزب. واشترطت المادة 48 على «تمثيل الغالبية المطلقة لعدد ولايات الوطن» وألا «يقل عددهم عن 800 عضو في كلّ ولاية». وبعد أنْ وضعت المذكرة التي سميت بالمراجعة تلك الشروط التعجيزية تنبهت إلى احتمال نجاح أحد الأطراف بتلبيتها فقامت بإضافة احتياطية (المادة 49) تنص على عدم شرعية الحزب «إلا بعد إيداع قانونه الأساسي، الذي يُصادق عليه قانونا، المؤتمر التأسيسي، لدى وزارة الداخلية». وزيادة في الاحتياط دعت المادة 51 إلى «التفكير في أحكام تمنع العلاقات التي يمكن أنْ تكون للأحزاب السياسية مع منظمات نقابية أو جمعيات أو أطراف أجنبية». (صحيفة «السلام» مذكرة الرئيس الجزائري).

بعد أن تدعي المذكرة (المراجعة) أنّ مشروعها هو قمّة الديمقراطية والتعددية تعلن عن جدول زمني يكفل تطبيق إنجازها الدستوري فتحدد في المادة 87 عقد ندوة وطنية مع بداية صيف 1996، ثم تعين المادة 88 قبل نهاية سنة 1996 موعدا لتنظيم استفتاء لمراجعة الدستور (التصويت على مذكرة الرئيس). وما إن تتم الموافقة حتى تبدأ إجراء انتخابات تشريعية في غضون «السداسي الأول من سنة 1997» (المادة 89)؛ أي قبل أن تكون الأحزاب قد أكملت تأسيس نفسها. فالمذكرة تشترط مدة سنة فترة زمنية لنيل الحزب الصفة القانونية من وزارة الداخلية بينما هي تحدد موعد الانتخابات التشريعية بعد ستة أشهر من استفتاء الموافقة على المذكرة. وهكذا تكون نخبة الدولة بسلطتها الرئاسية والتنفيذية قد أمنت شرعية دستورية لانقلابها على المجتمع وأحكمت قبضتها الحديد على حرية الشعب ومنافذه النقابية والسياسية، واستفردت بالأجهزة والمؤسسات وقطعت الطريق على المعارضة، حتى تلك القريبة من السلطة وسياساتها، وحجرتْ عليها إمكان التحرك أو التنافس حتى في إطار مشروع الدولة( الدستور) نفسه.

تشبه دستورية مذكرة الرئيس الجزائري التصوّر الدستوري الذي سبق أن وضعه رئيس «الجبهة القومية الإسلامية» حسن الترابي قبل تأييده انقلاب «ثورة الإنقاذ» في السودان. ومصدر التشابه هو أنّ الدولة هي التي تصنع المجتمع وتعيد صوغ الشخصية التاريخية للناس على مختلف فئاتهم وانتماءاتهم. فالدولة برأي النخبة الانقلابية هي قالب الحديد الذي يحدد شكل الجماعات وهوياتها بينما المجتمع لا دور له في المشاركة في عملية التحول وقيادته. ويلعب التصور المذكور دوره في تأسيس استبداد النخبة وتسلطها ويدفع الجماعات إلى المزيد من الانكفاء إلى هوياتها الصغيرة والضيّقة، الأمر الذي يهدد لاحقا وحدة الدولة وتماسكها المدني والأهلي، وهو أمر حصل في غير مكان عربي وانتهى إلى حروب أهلية وكوارث سياسية ووطنية واجتماعية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2051 - الخميس 17 أبريل 2008م الموافق 10 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً