بات من الشائع إعلاميا تردد عبارات مرادفة لأي حركات احتجاجية تتمثل في المظاهرات والإضرابات والاعتصامات، على ان من يقف وراءها هم ثلة من الغوغائين المحرضين الهامشيين في المجتمع ممن يحترفون الإثارة والتضليل.
يقابله أن أجهزة الدولة الأمنية لن تتوانى لحظة عن اتخاذ الإجراءات الفورية الحازمة سواء أكان ذلك عبر نصوص القانون أم برفع الاستعدادات القصوى للردع وبما يصاحبها من دعوات متنوعة إعلامية وخطابية للضرب بيد من حديد لمن تسوّل له نفسه التمادي واستخدام العصي الغليظة، فضلا عن المطالبة بضبط نشاط الأحزاب أو الجمعيات السياسية وتقنينه المستوى الذي لا تخوض فيه في أمور الدولة، كما عليها تفويض أمرها وإحالة ما لديها من توجهات إلى ممثليها في البرلمانات المنتخبة أو المعيّنة وعدم المناكفة والتحريض...إلخ!
ترى كيف يفسر علم الاجتماع السياسي هذه الظاهرة التي نشاهد فصولها الدرامية الحية في غالبية المجتمعات العربية حديثا؟
الحفاظ على القوة والضبط
في جزئية من التفسير، غالبا ما تنبري الخطابات العلنية الرسمية وشبه الرسمية في المجتمعات التي يسودها الاضطراب والتذبذب بين مظاهر الأنظمة الشمولية والاستبدادية ومظاهر الديمقراطية، للتعبير الفاقع عن طبيعة العلاقات السائدة بين الحكام والمحكومين، وهي من حيث الإدراك والقصد أو دونهما معا تقوم على استيلاد شرخ متواصل بين هذين الطرفين، وهي - أي الخطابات - في المسعى ذاته تعمل على تعزيز قوة السلطة وما تمثله من أجهزة وإدارات ورموز، كل ذلك بهدف الحفاظ على قوتها حتى ضبطها مباشرة أو عبر الأوضاع الرمزية لممارسة السلطة نفسها. ذلك ما يمكن ملاحظته ومراقبته عبر ما يحدث من استعراض لمظاهر القوة و/أو إصدار القوانين والتشريعات الضابطة.
لب الفكرة المعروضة هنا ليست من اختراعي أو بنات أفكاري، بقدر ما هي خلاصة ما جاء في الفصل الثالث من كتاب «المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم»، للمؤلف جيمس سكوت الصادر عن دار الساقي في العام 1995!
نعرض للمؤلف في هذا المقام فكرتين أساسيتين، إحداهما تتعلق بفكرة قوة السلطة في الخطاب العلني، والفكرة الأخرى هي فكرة التورية. بالنسبة للأولى، لها بعدان، الأول يشير إلى «أن كل استخدام مرئي وبيّن للقوة، فضلا عن كل أمر يصدر عن النخب المسيطرة، وكل مظهر من مظاهر الولاء، كل قائمة وكل سجل تراتبي، وكل عمل احتفالي، وكل عقاب علني، وكل استخدام لأي استثناء سواء كان تكريميا أو تصرفا رمزيا يعبّر عن السيطرة، هو في حقيقته يستخدم للتعبير عن الانتظام التراتبي أو تعزيزه؛ مما يجعل أي نمط من أنماط السيطرة يبدو على الدوام إشكاليا» (أي أنه يمثل إشكالا).
مضيفا أنه وللإبقاء على أي فعل للقوة، لابد من السؤال والبحث عن مقدار الضرب المطلوب، وعن عمليات الاعتقال والإعدام، وعن الرشا والتحذيرات والتنازلات وكم يحتاج الأمر إلى مظاهر إبداء العظمة، والعقاب والأمثولة، والتبرعات الخيرية وضروب الاستقامة الروحية وما إلى ذلك. فالتوكيد والتورية والتمويه والتضخيم، ومظاهر الإجماع في هذه الحالة تبدو كلها أساسية من أجل رسم البعد الدرامي لمصائر سيطرة القوة هنا واستعراضها، أما بالنسبة للمحكومين الذين قد يحدث لهم أن يجتمعوا بمبادرة ذاتية منهم، فإنهم عادة ما يوصفون بأنهم رعاع أو متمردون؛ مما يدعو للسؤال عن الجمهور الحقيقي للتظاهرات (ص 67-70)؟
استعراض القوة
أما البعد الثاني الدائر حول فكرة قوة السلطة، والمتعلق تحديدا باستعراض القوة والمقصود بها طبعا القوة العسكرية والقوة الأمنية لأي نظام سياسي متذبذب بين مظاهر الشمول أو الدمقرطة، فإن الاستعراض غالبا ما يؤدي إلى خلق انطباع تعبيري عن مدى قوة السلطة وتضامنها، الذي يقصد منه في الأصل إخافة المواطنين والخصوم المحليين حتى الأجانب، بما يصاحبها من توكيدات تعبيرية تساند تلك الاستعراضات ويعبر عنها بأشكال متعددة من الخطابات، التي منها عبارات تتضمنها الرسائل الإعلامية الموتورة والخطابات المشار إليها سلفا، تلك التي يجهد في بثها بعض الكتاب والمحللين وبما تتسم به من سمات زاجرة وناهية ومحذرة أو ساخرة، ومنتشية بالانتصارات وهي تخوض حروبها اليومية في مجالات نشاطها الصحافي والإعلامي المرئي والمسموع. فهي بمجملها وبحقيقة مضمونها المقصود منها أن تصب في مصب استعراضات قوة السلطة المتذبذبة بين الشمول والدمقرطة، أضف إلى ذلك ما يمكن ملاحظته من وجود «مؤشرات صامتة»، تأخذ تعبيراتها من كونها أسلوبا من أساليب الرقابة على سلوك المحكومين - المواطنين الذين يدفع بهم واقع الحال إلى الانكفاء على الذات والاستنكاف عن المشاركة الفعالة في العملية السياسية والشأن العام، وبالتالي تكون المؤشرات الصامتة بحق من أكثر المؤشرات تعبيرا عن سطوة الرقابة ذاتها.
من الصحيح أن يكون مسموحا به كما يشير سكوت الاعتراض أحيانا على طريقة حكم رئيس ما أو ممارسات نظام سياسي ما، ولكنه في غالب الأحيان ما يكون نادرا. ثمة قول ينقله عن أدولف هتلر يصوّر فيه هذا الواقع، فما الذي قاله هتلر؟
قال: «إن المرء لا يمكنه أن يحكم عن طريق القوة وحدها. صحيح أن القوة قد تكون عاملا حاسما، ولكن من المهم أيضا أن يحوز المرء ذلك العنصر النفسي الذي يحتاج إليه مروِّض الحيوانات للسيطرة على حيوانه. إن على المحكومين أن يظلوا على قناعة بأننا نحن المنتصرون» (انظر الكتاب ص 71)!
وعليه يفترض سكوت ان في مسار عملية ترسيخ المجتمع يمكن لأعضاء الجماعات المهيمنة أن يتعلموا أسلوب التصرف بكل تسلط وبقدر كبير من الثقة بالنفس. لماذا؟ يجيب: «لأن الوقوف على حلبة المسرح في مواجهة المحكومين، معناه ممارسة قدر كبير من النفوذ القوي على كلام المسيطر نفسه وعلى سلوكه، ولأن لدى المسيطرين مسرحا جماعيا يتعين عليهم الحفاظ عليه بالشكل الذي يجعله غالبا جزءا من تعريفهم لذاتهم. ففي المقام الأول يشعرهم ذلك وبشكل دائم بأنهم إنما يؤدون دورهم أمام جمهور شديد الانتقاد، وهذا الجمهور ينتظر بكل اشتياق أية إشارة تدل على أن اللاعبين بدأوا يفقدون سيطرتهم على الأمور. إذا كما يضيف تحليلا، هي عملية صوغ السلطة لمظهرها وبالتالي هيبتها» (ص 72).
التورية لتعظيم الرهبة والتجميل
عن الفكرة الأخرى التي تناولها سكوت، كانت هي فكرة التورية المشتقة من مصطلح «التورية» (Euphemization)، الذي ابتكره بورديو، والمقصود «ما يشي به الخطاب العلني من تعظيم للرهبة التي تحيط بالنخبة الحاكمة وهي التي تساهم في تجميل سمات السلطة التي لا يمكن إنكارها». يرى المؤلف أن «عنصر التورية» يستخدم عادة للتعميم على شيء ذي قيمة سلبيّة، أو من شأنه أن يتبّدى مربكا إن تم الإفصاح عنه بشكل علني. ودلّ على ذلك في ما يستخدم في الثقافة الأنغلو-أميركية، كأن تسمى «المبولة» بغرفة الاستراحة، أو محطة الراحة، بيت الماء، المغسلة... إلخ.
إن فرض التوريات - برأيه - على الخطاب العلني يلعب دورا مماثلا في وضع قناع على حقائق السيطرة القبيحة؛ لكي يمنحها سمة غير سيئة ويدمغها بالطابع الصحي. والتورية هنا تستخدم للتعميم على ممارسة الإكراه. ومن أمثلته التي ساقها للتوريات تلك التي كان يمارسها النظام الشمولي في الاتحاد السوفياتي السابق. قائمة تضم الكثير من التوريات التي تخطر على البال مصحوبة ببدائل أشد قسوة وأقل حيادية يمكنها أن تعبّر عن حقيقة استخدامها السياسي، كأن يقال مثلا: «فرض السلام» للتعبير عن الهجوم المسلح وما يصحبه من احتلال، و «التهدئة» للتعبير عن إلباس المعارض أردية المجانين، و «العقاب الأقصى» للتعبير عن عملية الإعدام السياسي؛ «معسكرات إعادة التأهيل» للتعبير عن السجون التي يوضع فيها المعارضون السياسيون، و «تجارة أخشاب الأبنوس» للتعبير عن تجارة العبيد في القرن الثامن عشر.
إذا كل مصطلح هنا إنما هو مفروض من مركز القوة على الخطاب العلني وبغرض وضع قناع سليم يغطي نشاطا أو واقعا ما يكون من شأن الإفصاح عنه أن يؤذي الكثيرين. ونتيجة لهذا تصبح الأوصاف المستخدَمة للغة العادية أكثر ارتباطا بملكوت اللغة الرسمية وأكثر تجذرا منها. وفي كل مرة يتاح للتورية الرسمية أن تهيمن على الروايات الأخرى المغايرة لها، يكن على المحكومين أن يرضوا علنا بالاحتكار الذي يمارسه الحاكمون على المعرفة العلنية. (ص 87-77).
من هنا يجوز للسائل طرح الأسئلة الآتية: هل المناداة بالضرب من حديد واستخدام العصي الغليظة يعني ما يعنيه من أرجحية توقع فرض حالة الطوارئ والعودة لحكم قوانين أمن الدولة المتعارضة مع فكرة الدساتير العقدية والممالك الدستورية؟ هل مطالبة الأحزاب والجمعيات السياسية بعدم المناكفة ونفض اليد من الاشتغال بالسياسة وإحالة توجهاتها ونشاطها وتحركاتها لممثلي البرلمانات ما يشي بتقويض المجتمع المدني ومؤسساته التي تعد صمام أمان لتوازن المجتمعات الإنسانية؟ هل إضفاء أوصاف على المحتجين والمضربين من العمال لتحسين ظروف عملهم وضماناتهم ومعيشتهم ورفع أجورهم وإنشاء نقاباتهم يعد ضربا من ضروب الغوغاء والتحريض من فئة الهامشيين المضللين؟ وهل يعني أن المجتمع سيعود أدراجه إلى حكم الأمن وسطوته بعيدا عن الدستور القائم على الحق والعدالة والمساواة؟
ثمة أسئلة لا تنتهي. ينام المواطن العربي عليها ويصحو على هواجسها ولاسيما مع شيوع مظاهر فتل العضلات واستعراض القوة المصحوبة بالزجر والتعالي والتبجيل وهوس الانشغال بالحديث عن الانتصارات المتحققة وبأي كلف!
- عن أي انتصارات نتحدث؟
- طبعا عن انتصارات الدولة على مواطنيها!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 2049 - الثلثاء 15 أبريل 2008م الموافق 08 ربيع الثاني 1429هـ