صرح أحد السياسيين لدينا، بأن سيطرة الدولة على الثروة النفطية، سبب رئيسي لعدم جديتها في الإصلاح السياسي. في المقابل، فإن تفتيت هذه الثروة من خلال توزيع عوائدها بين الناس، سيضعف قدرتها على الاستبداد، ولكن الدولة لن تقوم بنفسها بتوزيع العائد الحاصل من الثروة النفطية، لأنها غير مجبرة على هذه العملية، ومادامت الثروة بيدها، فهي أيضا من سيتحكم في توزيعها، سواء توزيعا منصفا أو ظالما.
وإذا كان هذا الطرح محاولة لمناغاة ما جرى في أوروبا قبل تحولها من العصر الإقطاعي إلى اقتصاد السوق الحر (الرأسمالية)، فان المسألة لم تجرِ في أوروبا هكذا، إذ كان الأفراد ينتجون الثروة، وهم يرفدون الدولة بالضرائب، لا أن تقوم الدولة باكتشاف كنز يطلق عليه «الذهب الأسود»، فتقوم بتوزيعه، ومن ثم تعيد استرداد شيء منه من خلال الضرائب حتى تكون خزينتها مرتهنة لأفراد المجتمع، فيخف استبدادها السياسي.
المسألة وحلها ليس بهذه السهولة، ونزع يد الدولة عن التحكم في الثروة النفطية لا يتم من خلال ممارسة الدولة لإنتاج هذه الثروة وبيعها، ومن ثم إعادة توزيع عوائدها، فما من دافع لمثل هذه العملية. الحل يكمن في الحاجة إلى الاتفاق على نظام اقتصادي يعمل بشكل تلقائي لحل هذه المعضلة.
ثم إن مشاركة الدولة في تكوين الموازنة من خلال الضرائب، يفتح المجال للشعب في التأثير على القرار السياسي، فكرة سليمة بشرط أن يكون دافع الضريبة قادرا على التأثير بطريق ما، كالامتناع عن الدفع أو عدم التعاون مع الدولة في هذا الخصوص، فتضطر الدولة للرضوخ لمطالب الإصلاح، فعندما كان بعض التجار في الكويت قديما «أكثر ثراء من الحكام أنفسهم، كانوا يشكلون فئة لها القدرة على التأثير وكان الحاكم حريصا على استشارتهم»، ومن ثم استطاعوا بنفوذهم إنشاء أول مجلس شورى في المنطقة العام 1921م.
أما اقتطاع الضريبة بشكل تلقائي من رواتب الموظفين، فلن يزيد الشعب إلا فقرا وتهميشا وبعدا عن القرار السياسي، وسيزيد الجهاز السياسي الحاكم تضخما وقوة واستبدادا من خلال مزيد من الثروة التي يشفطها من جيوب الناس بشكل قهري، فهذا الشكل من أخذ الضريبة لا يرغم الحكومة على إصلاح الوضع السياسي وإشراك الشعب في القرار، ولهذا ينبغي الحذر من أي ضريبة جديدة تفرضها الدولة على الناس. المسألة مرتبطة بظروف كثيرة، ما لم تتوافر، لا يمكن الزعم بأن تكوين خزينة الدولة عن طريق الضرائب يخلق حكما صالحا، فالدولة البوليسية - مثلا - يمكن أن تفرض ضرائب باهظة، يزيد في استبدادها بدلا من أن يدفعها ذلك للإصلاح السياسي.
يروي الطبري بعض مظاهر القسوة في جمع الضرائب، فحين أخبر أحد الولاة أحد خلفاء بني أمية بقلة الموارد المالية في بلاده، قال له الخليفة: احلب الدر فإن انقطع احلب الدم. وقريبا في العصر العثماني، يذكر الشيخ محمد جواد مغنية مبالغة الدولة العثمانية في فرض الضرائب على المزارعين قائلا: «وحكى لنا بعض الشيوخ، أن صاحب الأرض في العهد العثماني، كان يهرب منها ويتنازل عنها بلا ثمن لمن شاء، فرارا من الضرائب الفادحة، وأن الكثير من الناس كانوا يؤثرون الفقر والبطالة على العمل في الأرض للغاية نفسها». (في ظلال نهج البلاغة، ج 4، ص 87).
وينقل محسن باقر الموسوي في كتابه «الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة» صورة تاريخية مرعبة لما كان يحدث في بعض البلدان قائلا: «من يدرس التاريخ، يجد صورا مرعبة عن الطرق التي تمارس عند أخذ الأتاوات. وفي حالة عجز الفلاح عن دفع الضريبة، كان المأمورون يستولون على ممتلكاته الأخرى فيبيعونها ليسددوا بها مقدار الضريبة، وعندما لم تكن لديه حتى الحاجيات التي يستطيعون بيعها، كانوا يأخذون أولاده وزوجته قسرا ليبيعونهم لهذا الغرض».
ثم إن الإصلاح السياسي ليس مقتصرا على عامل واحد، هو العامل الاقتصادي حتى نربط تغوُّل الدولة هنا بالنفط فقط، وعدم حاجتها إلى الضرائب، وربما فيما مضى من تاريخ حين لم يكن هنا نفط، دليل على خطأ حصر مشكلة عدم الجدية في الإصلاح السياسي بسيطرة الدولة على ثروة النفط، فالعوامل كثيرة، وأهمها على الإطلاق اللعب على التناقضات المجتمعية من خلال التمييز، فالتمييز مرة يكون في العطاء، ومرة يكون في الأخذ؛ ففي ذلك الوقت، كان التمييز في فرض الضرائب، كضريبة يُطلق عليها آنذاك «الطراز»، مفروضة على أفراد طائفة دون الطوائف الأخرى.
وعندما ظهر النفط واستغنت الدولة عن الضرائب، أصبح التمييز في العطاء من هذه الثروة وسوء توزيعها. وكذلك، فهذه الثروة النفطية أنتجت مؤسسات، تتم من خلالها ممارسة التمييز في الوظائف والمناصب الكبيرة، ما يحول دون توحد فئات الشعب على المطالبة بالحقوق السياسية المتساوية، فالمستفيد من التمييز أو غير المتضرر منه، لا يتحمس للمشاركة في المطالبة بالإصلاح، هذا إن لم يقف بقوة في جانب الحكومة، وبذلك فإن التمييز من الأسباب الكبيرة في استمرار الاستبداد وإفشال المطالبات بالإصلاح السياسي.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 2049 - الثلثاء 15 أبريل 2008م الموافق 08 ربيع الثاني 1429هـ