هناك الكثير من المعلومات والتسريبات الصحافية تشير إلى وجود لقاءات واتصالات وصفقات «سرية» ومفاوضات من وراء الكواليس تتناول مختلف قضايا «الشرق الأوسط» من فلسطين إلى العراق ولبنان وغيرها من نقاط وملفات ساخنة. المعلومات ضعيفة وأحيانا مشوشة وتحتاج إلى تدقيق وتوضيح للتعرف على مدى صحتها وجديتها.
الكلام عن محادثات إيرانية - أميركية ليس جديدا. وهناك شواهد بالصوت والصورة عن حصولها (ثلاثة لقاءات) في بغداد. ولكن تسريب معلومات عن وجود اتصالات ثنائية بعيدة عن الأضواء تعقد في أمكنة مجهولة لن يعلن عنها إلا بعد توصلها إلى نتائج ميدانية تنهي الكثير من الإشكالات يعتبر إضافة نوعية إلى ذاك الكلام المشوش.
الأحاديث المتداولة عن وجود اتصالات سورية - أميركية ليس جديدا أيضا. فهناك شواهد بالصوت والصورة عن حصول لقاءات ثنائية تحت مسميات مختلفة في دمشق وواشنطن ونيويورك وأنقرة وشرم الشيخ وأخيرا في «مؤتمر أنابوليس». الاجتماعات ليست سرية وهي تعقد تحت يافطات البحث في مشكلات مختلفة مرة لمعالجة الملف الأمني في العراق ومرة لمعالجة موضوع اللاجئين العراقيين في سورية ومرة لتبادل المعلومات بشأن شبكات تهدد أمن المنطقة وتزعزع استقرارها.
إلى جانب هذه المعلومات المتصلة بالكلام والأحاديث عن لقاءات علنية وسرية ثنائية بين سورية وأميركا من جهة وإيران وأميركا من جهة أخرى ترشح أحيانا تسريبات عن وجود وسطاء أو «قنوات ثالثة» تنقل الرسائل من خلال زيارات وفود أوروبية وأميركية إلى دمشق وبغداد وطهران تقترح فيها الجهات المعنية بعض الأفكار القابلة للتداول أو المعالجة. فالكلام عن وجود «قناة فرنسية» و «قناة سويسرية» وأخرى بلجيكية وأحيانا تركية أو ألمانية تتوسط بين الفرقاء أو تقوم بدور ساعي البريد بات من الأمور الرائجة في تحليلات الخبراء وأصحاب الرأي وكتاب الأعمدة في الصحف الإسرائيلية والبريطانية والأميركية.
كل هذا الزخم في التسريبات لم يرشح عنه حتى الآن تلك المعلومات المطلوبة للبناء عليها واستخلاص قراءات يمكن أن تشير إلى وجود تطور ما في العلاقات العربية - الأميركية أو العربية - الإسرائيلية. فالتسريبات ضحلة ولا يمكن التأسيس عليها للدلالة على نمو مؤشرات جديدة تعطي فكرة موجزة عن صفقات متوقع حصولها في المنطقة قبل نهاية عهد الرئيس الأميركي جورج بوش.
التنمية وأخواتها
كل هذا جرى تداوله إعلاميا حتى جاء موعد انعقاد «منتدى الدوحة» الثامن في قطر. فهل تشكل مشاركة وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في «منتدى الدوحة» عن الديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة سابقة في العلاقات العربية - الإسرائيلية وإشارة إعلامية للبدء في سياسة التطبيع بين الطرفين؟
هناك قراءات مختلفة للخطوة الإسرائيلية - القطرية. البعض يضع المشاركة الإسرائيلية في إطار متواضع لا يتعدى حدود المنتدى ومتطلباته التي تقضي بتوجيه دعوات بروتوكولية عامة لدول منطقة «الشرق الأوسط» ومن بينها «إسرائيل»، وبالتالي فإن المشاركة لا تعني الانفتاح والتبادل التجاري الحر والبدء في تأسيس تنمية مشتركة. البعض يضع المشاركة الإسرائيلية في «منزلة بين المنزلتين» فهي لا تعني بدء التطبيع ولكنها ترسل إشارة سياسية عن وجود نزعة تريد نقل الاتصالات من «السرية» إلى «العلنية» بقصد اختبار مدى تجاوب الرأي العام العربي مع هكذا تصرفات وفحص ردة فعل الشارع على تلك المصافحات واللقاءات. والبعض يرى في تلك الاتصالات خطوة عملية تريد رفع العلاقات مع «إسرائيل» من الميدان الإعلامي وفتح المكاتب التجارية إلى أطر أكثر تقدما تتجه رويدا نحو الاعتراف والتبادل الدبلوماسي والبدء في وضع قواعد ثابتة للتطبيع.
وزيرة الخارجية الإسرائيلية لم تتردد في دعوة الدول العربية إلى اتخاذ خطوات عملية وتحذو حذو قطر في الإبقاء على الصداقة مع تل أبيب. ودعوة ليفني العلنية جاءت في سياق لقاءات واتصالات وتبادل وجهات نظر حصلت في إطار «منتدى الدوحة» وخارجه. والدعوة التي وجهت استندت إلى سوابق في مجالات مختلفة للتطبيع وخصوصا أن اللقاءات القطرية - الإسرائيلية ليست جديدة، فقد شهدت في السنوات الماضية مجموعة تحولات أخذت أكثر من زاوية. فقبل ليفني قام الرئيس الإسرائيلي حاليا شمعون بيريز بزيارة علنية إلى الدوحة في مطلع العام 2007 سبقتها وتلتها اتصالات وزيارات وتبادل رسائل عربية - إسرائيلية تناولت الملفات اللبنانية والفلسطينية والسورية (موضوع احتلال الجولان). ولعبت قطر في هذا المضمار دور الجسر الذي يربط وينقل ويستقبل.
في كل الأحوال ما حصل في «منتدى الدوحة» من لقاءات ومصافحات واتصالات ودعوات وتبادل آراء ووجهات نظر ليس بسيطا. فقطر تشهد منذ فترة طفرة مالية واقتصادية وعمرانية غير مسبوقة إضافة إلى كونها تحتضن محطة «الجزيرة» وعشرات القوى السياسية التي تصنف عادة في خندق الممانعة والرفض. وبسبب هذه المواصفات والتوصيفات تعتبر مشاركة وزيرة الخارجية الإسرائيلية خطوة في سياق يعطي فكرة عن تلك المداولات التي يقال إنها توصلت في بعض أوجهها إلى أشواط متقدمة سواء على مستوى التطبيع التجاري أو على مستوى امتحان المدى الذي ستخرج به تلك اللقاءات الثنائية السرية والعلنية التي تعقد بين إيران وأميركا وسورية وأميركا.
المشاركة الإسرائيلية في «منتدى الدوحة» يمكن اعتبارها خطوة ميدانية لاختبار ردود فعل القوى الممانعة التي ترفض التطبيع وتعترض مبدئيا على تلك المصافحات واللقاءات التي تعقد بين فينة وأخرى في القاهرة وعمّان ورام الله والقدس. والامتحان في هذا المجال يعتبر ضروريا للتعرف على مدى جدية قوى الممانعة في الممانعة وبالتالي فحص درجة التزامها في مشروع سياسي تأسس تقليديا على رفض التطبيع وما يعنيه من تسويات أو تنازلات.
ذهاب ليفني إلى الدوحة للمشاركة في المنتدى الاقتصادي (التنموي) أرسل فعلا أكثر من إشارة وتعمد طرح أوراق مختلفة الألوان والأرقام على طاولة «الشرق الأوسط» وتلك الملفات الجاري إعدادها بشأن مستقبل العراق وفلسطين ولبنان ودور طفرة النفط والمال في تحقيق التنمية بمشاركة كل الدول بما فيها «إسرائيل».
ما جرى في «منتدى الدوحة» لا يمكن أن يمر من دون انتباه، فهو حصل في إطار بحث وسائل «التنمية» و«التجارة الحرة» و «الديمقراطية» وما تقتضيه تلك النقاط من خطوط اتصال وتبادل معلومات وخبرات ومعارف في هذه الحقول. وبما أن الدول العربية ضعيفة في المجالات المذكورة تصبح مشاركة «إسرائيل» واضحة في مدلولاتها في اعتبار أنها تمتلك تجارب «فنية» و «تقنية» تحتاجها الكثير من مؤسسات المنطقة. وهذا الاحتمال إذا جرى تسهيل إشغاله وأعماله فمعنى ذلك أن تسليك قنوات الشق التجاري من مشروع «الشرق الأوسط» بات مرجحا في حال تعطلت الجوانب السياسية منه. فالمال كما يقال «عصب الأعمال» وهو ينشط حتى إذا توقفت العجلات الأخرى وهو أيضا يحرك العجلات حين تتوقف.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2049 - الثلثاء 15 أبريل 2008م الموافق 08 ربيع الثاني 1429هـ