لا توجد وسيلة للمواصلات سوى الأرجل... وبالتالي فإن معايير المناضل هنا تختلف عن غيرها من المناطق الخليجية... فإذا كنت مترددا في السير أو خانتك رجلاك.. أو متذمرا من السير ساعات طويلة.. فذلك لا يضعك في مصاف الرفاق الذين يسيرون المسافات الطويلة، وخاصة الصحراوية دون كلل أو ملل، وتسمع الكثير من القصص البطولية عن رفاق (سعاة بريد، يقطعون المسافات بأسرع من السيارة) أو أولئك الرفاق الذين لم يناموا أياما وهم يحرسون القوافل التي تتعرض باستمرار إلى قصف الطيران، حيث كان الهدف الأساسي هو قطع طرق الإمدادات، ووسائل النقل، وبالتالي كانت قوات الحكومة تركز على قوافل الجمال، وعلى البقر لحرمان المقاتلين من ثروة يعتمدون عليها في طعامهم، ويمكن القول أن أعداد الجمال وقطعان الأبقار التي أبيدت في ظفار كانت كبيرة للغاية، وكان من الضروري بالنسبة للجبهة أن تفكر بشق طريق بدائي يربط حوف بالمنطقة الغربية من ظفار، وخاصة بعد تحرير ضلكوت، الميناء الساحلي الصغير في ظفار، بالدرجة الأساسية، وقد نجحت في ذلك، ولكن لم يكن بالإمكان الاعتماد على السيارات لنقل المقاتلين، حيث يمكن تعرضهم للقصف، وبالتالي فإن السير على الأقدام كان الوسيلة الأساسية، وعليك أن تتعلم المشي لساعات وبسرعة وبحذر، وخاصة في موسم الأمطار حيث يمكن أن يسبب تراخيك في السير إلى سقوطك في واد سحيق لا ترى له مستقر (وفي الكثير من المرات عندما تسأل المسئول العسكري عن المحطة التي تريدها وهل نحن بعيدين عنها، يكون رده: مبو ... رمية عصى... قريب... وتمضي بعد ذلك ساعات طويلة).
تمكنا من الوصول إلى الرفاق في قيادة الجبهة، وكان معنا الشهيد أحمد علي (زاهر)، القيادي الأبرز من عمان الداخل، والذي تمكن من الخروج من عمان وحضور المؤتمر الثالث، ثم المجيء إلى عدن لتشكيل وفد الجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عمان والخليج العربي، والدخول في مفاوضات مع قيادة الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل... وكان قرار المؤتمر الثالث للحركة الثورية بتوحيد الجبهتين واضحا للغاية، لابد من العمل المشترك، وبالتالي كانت الحوارات تصب في هذا الاتجاه... لكن كان الضغط كبيرا باتجاه استئناف العمل العسكري في عمان الداخل، في الوقت الذي بدأت سفينة السلطنة تبحر بالامكانيات النفطية المتصاعدة، وبالدعم الغربي والعربي المتصاعد، وبالبرامج الإصلاحية الجديدة لإخراج البلاد من مرحلة معتمة إلى مرحلة مواكبة للتطورات في منطقة الخليج التي بدأت تحث الخطى لترتيب أوضاعها قبل انتهاء الوقت الذي حدده البريطانيون للانسحاب (نهاية العام 1971)، وفي الوقت ذاته فإن الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل (ظفار) كانت تواجه حملات عسكرية مكثفة، وحملات إعلامية وسياسية لا تقل خطورة عنها، في الوقت الذي اتجهت يسارا بدرجة كبيرة وبدأت العناصر الوسطية، بل وبعض الكوادر تغادر الثورة وتلتحق بالفرق التي شكلتها الحكومة العمانية، بمسمى (الفرق الوطنية)، مما دفع الصراع الداخلي إلى الأمام، وكانت المحاكمات الثورية سريعة للغاية في إصدار الأحكام وتصفية الخصوم، ومن يشك في ولائهم للثورة...
***
بعد سلسلة التحضيرات للمؤتمر التوحيدي، والاتفاق المسبق على القيادة القادمة، كان واضحا أن هناك خطان متعارضان في الحركة الثورية الشعبية وفي الجبهة الشعبية بالتالي، أحدهما يقوده الرفيق عبدالعزيز القاضي الذي يستلهم التجربة الصينية والفيتنامية، وبعقلية ستالينية واضحة المعالم، فكريا وفي الممارسة، حيث أصدر كراسا لتحليل الوضع الطبقي في ظفار يستند على المقولات الستالينية في تحليل الطبقات، كما دفع باتجاه اتخاذ العديد من القرارات المتعلقة بالأرض الزراعية في ظفار وتسميات فرق جيش التحرير ومجمل التثقيف الحزبي في الإقليم، وكان الرفيق يتمتع بمكانة عالية وسط الحزبيين ووسط قيادة الجبهة، لنزاهته وتواضعه وتقشفه ودأبه المستمر على متابعة الأمور في الإقليم، وكانت الغالبية الحزبية والجبهوية تدعمه دون مناقشة تذكر، بينما كان الخط الآخر يمثله غالبية الرفاق من عمان الداخل والبحرين والمجال الطلابي، يتخذ مواقف أكثر مرونة، ويطالب بأن يكون برنامج الجبهة معبرا عن التطور السياسي والاجتماع والفكري الذي يعيشه كل الحزبيين في المنطقة... وكان المؤتمر التوحيدي ساحة الصدام الأولى بين الطرفين.
مؤتمر اهليش التاريخي (ديسمبر 1971) الذي وحد الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل والجبهة الوطنية الديمقراطية لتحرير عمان والخليج العربي في جبهة واحدة باسم الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي، حضره ممثلا عن جبهة الأخيرة كل من عبدالرحمن محمد النعيمي، عبدالنبي العكري، زاهر المياحي، هلال، أبو صلاح، سعود المرزوقي وآخرون، بينما مثل الجبهة الأخرى عبدالعزيز القاضي، أحمد عبدالصمد، محمد أحمد الغساني، أحمد البريكي، عامر علي، وآخرون (ولم تمثل امرأة في المرأة رغم أن نسبة حضورها في جيش التحرير قد وصلت إلى 30 في المئة). كان مؤتمرا تاريخيا، في مرحلة اشتداد الصراع ضد الأنظمة الخليجية، وبالدرجة الأساسية ضد السلطنة التي زجت بالمزيد من الحلفاء العرب والأجانب، وبالتحديد الإيرانيين لاحقا في الصراع المسلح والسياسي، وكان الطرف الأول الذي مثله الرفيق عبدالعزيز القاضي يرى في التطرف وسيلة أساسية لتقوية وضع الجبهة وصمودها، بينما انتقد الطرف الثاني جميع الخطوات التي أقدمت عليها قيادة الجبهة (في مؤتمر عقدته في سبتمبر 1971) من تسميات الوحدات العسكرية والمدارس وتأميم الأرض وكيفية معالجة الاختلافات وسط صفوف الجبهة، وقد استشهد هذا الطرف بالتكتيكات التي لجأ إليها العدو ومن حرب نفسية انعكست بوضوح على الجماهير والأعضاء الحزبيين والجبهويين، بحيث بدأت الأمور واضحة إن التساقطات تتزايد في صفوف الثورة، بينما كان المواطنون يلتحقون بالثورة أيام سعيد بن تيمور.
كان الرفاق اليمنيون الذين حضروا كمراقبين في المؤتمر، وفي مقدمتهم الرفيق علي سالم البيض وأحمد سالم (محافظ المحافظة السادسة) قلقين لغاية من النقاشات الحادة بين الطرفين، وكان متخوفا من فشل المؤتمر... لكن النتيجة كانت مقررة سلفا في المؤتمر الثالث للحركة الثورية، وتوصلنا إلى توافق بتشكيل قيادة موحدة تضم الرفاق من مختلف مناطق عمان، في توجه واضح بأن الخطوة القادمة ستكون عمانية... وفي اجتماع للجنة التنفيذية الحزبية، والتي يشكل الأقلية الجبهوية أغلبية فيها، أصر الطرف الأخير على قيادتي للجنة التنفيذية، مما يعني استمرار الإزدواجية والإشكالية الحزبية الجبهوية.... فحيث قيادة الجبهة تمثل الخط الأكثر تشددا والأكثر تعبيرا عن وضعية المناضلين في ظفار، كانت القيادة الحزبية تمثل الخط الداعي إلى المزيد من المرونة وإلى المزيد من توسيع التحالفات السياسية والتخلي عن الكثير من السياسات والمواقف المتشنجة.
ولكن لابد من الخضوع لموقف الأغلبية هناك، وموقف الأغلبية هنا... وكان من الضروري بعدها أن ننتقل إلى مواقع أخرى (جميع القيادات الحزبية والجبهوية غير الظفارية) لنتمكن من ترجمة قرارات المؤتمر التوحيدي وقبله ترجمة قناعاتنا بضرورة العمل الحزبي المرتبط بالعمل الجماهيري المستند على مؤسسات مجتمعية من النقابات واللجان العمالية والاتحادات الطلابية والجمعيات النسائية والأندية وسواها من مؤسسات أفرزها التطور في جميع مناطق الخليج ولكن لم يكن لها حضور في ظفار سواء في المدن أو الريف، بحكم التخلف الشديد الذي عاشه الإقليم في فترة السلطان السابق!!
وتلك كانت محطة أخرى
العدد 2295 - الأربعاء 17 ديسمبر 2008م الموافق 18 ذي الحجة 1429هـ