العدد 2295 - الأربعاء 17 ديسمبر 2008م الموافق 18 ذي الحجة 1429هـ

ذاكرة المكان والحداثة

خالد زيادة يحاضر في مركز الشيخ إبراهيم عن:

استضاف مركز الشيخ إبراهيم بالمحرق الدكتور خالد زيادة في محاضرة بعنوان «ذاكرة المكان» قدم فيها قراءة لإنثربولوجيا المدينة وتحولات المكان وسيرته، فالمدينة التي كانت يوما ما بعيدة عن أعين الإنسان أصبحت الآن في مركز الرصد وذلك حين تناولها علم الاجتماع المديني، فكان يعكس مشكلات المدينة فميزة علم الاجتماع أنه وضع المدينة موضع الفحص إلى أن أصبحت دراسة المدينة فرصة لتعارُض علوم مختلفة، لذلك لم تترك المدينة لعلماء الاجتماع وحدهم.

الانثروبولوجيون والروائيون

واشتغل عليها الانثروبولوجيون دارسين ثقافات إنسانها وتحولات أماكنها منتقلين من اهتماماتهم بالمجتمعات البدائية والصغيرة إلى دراسة مجتمع المدينة المعاصرة، حيث ملتقى الإثنيات والتقاليد والمعاش، وذاكرة المكان، ملخصا أن اثربولوجيا المدينة ذاكرة تراكمية خاصة تكتسب أهميتها من أهمية المكان وعلاقات الكائن به فهي امتداد للجسد والوجدان، هذه الذاكرة التي نرثها ونورثها، ترتبط بالزمن والأوقات إذ كلما بعدت في الزمن اكتسبت ثراءها وقيمتها.

وكذلك عكف الروائيون على المدينة فتركوا مخيلتهم تحلق في رحابها فكانت الرواية ابنة المدينة، من خلال أماكنها التي تختزن الذاكرة والتحولات التي صنعها تصارع الثقافة مع الزمن، فالمكان الذي «حمل أسئلتي في صباي» حيث الطريق الطويل والكآبة يوم الجمعة والرهبة في الليالي المظلمة والحكايات الخرافية، تحول إلى الساحة العامة في المدينة والازدحام أوقات العمل في الليل المنير، فانتقلنا من ليل تقليدي مظلم خارج الزمن إلى ليل منير ومن مكان للصمت والعتمة واشتغال المخيلة بالحكايات والأساطير الخرافية، إلى مكان الصخب والازدحام، وهكذا لكل شيء ذاكرته فكذلك هو النهر الذي لا يحضر إلا وتحضر الذاكرة المتعلقة به وبعدد الضحايا الذين ابتلعتهم حكاياته.

ذاكرة المدينة

وليس أدل على هذا التحوّل وثيمة الصراع فينا بين القدامة والحداثة من حالة الاحتفاء بالقديم الذي نلتقطه ونضعه في بيوتنا، ونقتنيه ونزدهي به، لقد داهمتنا الحداثة فترددنا في قبولها أو رفضها، فقد تم هدم الكثير من المباني وإقامة غيرها إذ هدت المباني المملوكية والعثمانية ثم تم الاستهتار حتى بالمباني التي ترجع لانطلاقة الحداثة في شهقتها الأولى بعد أن فقدت هذه المباني وظائفها فكم يختزن وجدان الإنسان من ذاكرة للأماكن فهذا مبنى يمثل حقبة القهر والظلم وهذا مبنى لحقبة الاستقلال.

وأشار زيادة إلى أن لكل مدينة ذاكرتها وأناستها الخاصة وأن هذه اللحظة الراهنة هي لحظة التجاذب بين القديم والحديث وأن المدينة هي محطة الصراع بين الذاكرة التقليدية وتشكل لحظة الحداثة، فنرصد فيها آثار الاقتلاع أو الاندماج التام أو المحافظة ورفض الاندماج.

وأشار إلى أن الذاكرة مكان الرفض ليس فقط عند المهاجرين حيث رفض الاندماج، ورفض النسيان في وسط بيئة مغايرة وغريبة بل حتى عند المواطنين وهنا تتشكل الغربة حتى وسط الأماكن التي نشأنا فيها وذلك حينما تتسلط عليها وعلينا الحداثة فيقف الكائن حائرا بين أن يطل من الماضي على الحاضر أو يطل من الحاضر على الماضي، وفرق بين أن تتحول الذاكرة إلى عبء زائد أو تتحول إلى عنصر إغناء وإثراء للكائن.

فالحداثة تكمن ها هنا في فهم الماضي وتظهيره وإبرازه ففيها نكتشف الماضي ونسبر حضاراته القديمة فلا يقف الماضي في وجه الحاضر لأن الحداثة اكتشفته.

استخدامات الذاكرة

وإثر مجموعة من المداخلات أشار زيادة إلى أن استخدام الذاكرة بصورة حديثة يتوقف على استخدامنا للذاكرة فهل نمضي للحاضر من الماضي أم العكس فنحن في خضم الحداثة وقد كانت ذات طابع تدميري فبعد 100 سنة من التجارب العربية ثمة مدن واجهت تيار الحداثة بسجال لم يهدأ ليس على المستوى الفكري بل على المستوى الواقعي أيضا، ثم نندم على ما خلفنا لنقوم باستعادة الذاكرة والمهم هنا في عملية الاستعادة هو محاولة تنظيم هذه الذاكرة ومتطلبات الحداثة، فكيف نوائم بطريقة حديثة بين ذاكرتنا ومتطلبات الحداثة إلا من خلال فتوحات مناهج العلوم الإنسانية الحديثة، التي تتيح لنا النظر بموضوعية للتاريخ، واستطرد لقد تم التعسف في إزالة مدن بشعار التحديث فحين تقرأ تاريخ الجبرتي تجد أنه شديد التأسف لإجراءات الفرنسيين مع نابليون في هدم البوابات القديمة بحجة الوصول للثوار فعمليات الهدم بدأت منذ قرنين واستمرت مع محمد علي باشا الذي بالغ أكثر في الهدم وحتى الخديوي إسماعيل فعل ذلك حين التخطيط للمدن، فثمة تاريخ طويل من الصراع بين القديم والحديث فكم أهدرنا من وقت ومن أمكنة في الهدم ونحتاج إلى وضع هذه المسألة في إطار من العقلانية والمواءمة بين متطلبات الذاكرة والحداثة.

الاستفادة من تجربة البحرين

وفي البحرين مازال الوقت متاحا للقيام بأعمال إيجابية على مستوى ذاكرة المكان وما رأيته في هذا الحي تجربة يمكن الاستفادة منها خارج البحرين. وأكد بأن المناهج الحديثة قادرة على استعادة ما حدث في الماضي ولنتوقف عن إهدار الماضي، والمكان ليس المبنى بل هو العلاقة بين الإنسان والمحيط وليس ترميم المكان واستعادة الجدران والشبابيك.

العرب بناة مدن

وبشأن ما تستطيعه الانثروبولوجيا أشار إلى أنها القادرة على إضاءة ما يحدث في التاريخ والمنهج التاريخي لا يستوفي المدينة حقها، التاريخ لا يقول ما يحدث في ليل المدينة ولا نهارها ولا تحولاتها حين دخول السينما ولا ما يعيشه الناس على ضفتي النهر، كل هذه الأمور يكشفها لا يكشفها إلا الانثروبولوجي.

وفي رده على إشكالية البداوة والحضارة عند الإنسان العربي أكد أن العرب بناة مدن والقول: إنهم شعب رحل قول شاعري بل هم مشاركون فعالون في الحضارة وما أعطاه العرب للحضارة الإنسانية في مجال العمران المديني لا ينكره أحد بل إن العرب شديدو القعود.

المكان في الرواية

وفي رده على مداخلة بشأن المكان في الرواية عند نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف أشار زيادة إلى أن ثمة هواجس مختلفة لكل من الكاتبين فقد كانت تحولات 1919 والتغيرات الكبيرة في رواية ما بين القصرين هي السر وراء كتابات محفوظ الذي كان وفديا ويدرك هذه التغيرات فقد وقف مؤرخا اجتماعيا للقاهرة الحديثة، فالروائي يرصد التحولات وقد لا يعطي رأيا، لكنه رفض هذه التحولات، فقد كان يرى الحداثة وأثرها الإيجابي أما في الخمسينيات فقد كان موقفه سلبيا من التحولات التي شهدها، أما منيف فهو يرصد تحولات عصر النفط واتخذ من سيرة مدينة عمان ذاكرة للرصد وفي هذا الكتاب الذي ترجم بعد صدوره إلى 7 لغات يتوقف عن أن يكون كاتبا لرواية سياسية إلى رصد ذاكرة المكان ويترك لقلمه أن ينطلق في المدينة التي عاش فها الثلاثينيات والأربعينيات والتحولات الكبرى ما بين الحربين إنه كتاب ممتع، وخلص زيادة إلى أن بعض العرب قاموا بدور المؤرخ ودور الانثروبولوجي.

وعن سرد ماركيز أشار إلى أن قُرّاء ماركيز يعرفون ألف باء الرواية عنده وكذلك هي الرواية اللاتينية وهذا الحس الأسطوري هو جزء من ثقافة ما قبل المسيحية ولعل هذا فارق أساسي بين كتابة محفوظ التي لا نجد فيها هذه المساحات من العالم الغرائبي وهذا ليس من مخيلة ماركيز بل من الثقافة الممتدة في ذاكرة المكان.

وإثر بعض المداخلات التي أخذته نحو الأدب قال ملاطفا جمهوره: إنه سيكون ممتعا «أن أحضر مرة أخرى للكلام باستفاضة في الأدب»، وختم مؤكدا أهمية العودة المنهجية للذاكرة وتنظيمها أن نقيم علاقة جدلية للحفاظ على الذات والحداثة، وأكد أن تظافر التجارب في استعادة الأمكنة وذاكرتها التي تجري هنا في أحياء المحرق وفي مدينة حلب وفي فاس ومصر وغيرها يغني هذه الذاكرة ومن هنا ينبغي لأصحاب هذه التجارب أن يلتقوا ويتفاعلوا حول ذاكرة المكان

العدد 2295 - الأربعاء 17 ديسمبر 2008م الموافق 18 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً