مرّت علينا الذكرى الأربعون لاغتيال داعية الحقوق المدنية الأميركي القس مارتن لوثر كنغ. ولكونه مناضلا ضد التمييز العنصري فقد منحته مجلة تايمز العام 1963 لقب رجل العام، وفي العام 1964 منح جائزة نوبل للسلام لنضاله السلمي ضد التمييز، فكان أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة وعمره 35 عاما.
لقد استمدّ مارتن لوثر كنغ مبادئ اللاعنف من السيّد المسيح واستلهم سيرة المهاتما غاندي، فكان إنسانا شهد أعداؤه بمناقبه؛ فكّرمته الإنسانية باستحقاق. واعترافا بمساهماته في خدمة أمته تحتفل الولايات المتحدة الأميركية كلّ سنة بذكراه. فقد حمل كنغ رسالة عظيمة لمعالجة وباء ضرب وطنه في مقتل كاد أن يقطع أوصالها ويحرفها عن مسيرة التنمية والتقدّم العلمي الذي لولاه لما تربّعت على عرش الريادة العالمي. فالعنصرية قد تمكنت آنذاك من وطنه الذي كان يخوض حرباَ باردة مع المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي الذي كان يُراهن على انهاك أميركا من الداخل بفعل سياسة التمييز العنصري المعمول بها آنذاك.
لقد ساهم كنغ في انتشال بلاده من مستنقع التشطير وتفاعل مع نضاله المفكّرون والباحثون والعقلاء من الساسة وأصحاب المصالح والمواطنين كافة الذين يهمهم استقرار وطنهم وتقدمه. وهكذا تم الإطاحة بسياسة التمييز العنصري وانتصر المواطن الأبيض لأخيه المواطن الأسود لينعم الجميع بالأمن والطمأنينة والسلام بدلا من التناحر الداخلي.
كيف خرجت أميركا من مستنقع التمييز العنصري؟
للتمييز العنصري تاريخ قديم في أميركا يعرفه الجميع مما جعل من استئصاله عملية بالغة الصعوبة على مر العقود. فالمواطن الأبيض الذي استحوذ على كلّ المنافع وسخّر أخاه الأسود لخدمته وحرمه من حقوق المواطنة، اعتقد أنه بهذا قد كسر شوكة الأقلية الملوّنة, وأنه سينعم باستئثار الثروة على حساب شركاء الوطن، متناسيا أنّ المزيد من التمييز العنصري ما هو إلا وقود للعمل على إزالته.
إن الفضل في استئصال هذا المرض العضال يُعود للنضال السلمي للمواطن الأسود، وحيوية المجتمع الأميركي وواقعيته الذي لم يخجل من الاعتراف بوجود المرض ولم يكابر, بعد التجارب المرة, لإيجاد المبررات لممارسته. صحيح أن نزعة الأستئثار والتملك هي نزعة بشرية، إلا ان إدارة وعقلنة هذه النزعة البشرية كان لازما من أجل حماية الوطن، وهذا ما أدركه الجميع، وهكذا تم الاعتراف السياسي بحقوق المواطنة للجميع من دون استثناء، وتم تدوين هذا الاعتراف في قوانين نافذة وآليات رقابة فاعلة.
إنّ التجربة الأميركية في دحر العنصرية جديرة بالدراسة والاهتمام، فما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة؟
دروس في حاجة لاستخلاصها
- النضال السلمي وتجنب العنف:
أدرك كنغ أن النضال السلمي هو أكثر الوسائل فاعلية لقهر التمييز، مستلهما هذه الدروس من تعاليم المسيح وتجربة من سبقوه من المناضلين من أمثال المهاتما غاندي. فالتمييز العنصري سياسة عدوانية ضد المجتمع، وهو بمثابة النار التي لا يطفئها غير الماء. وما دام المسيح يدعو للمحبّة والتسامح «أحبوا أعداءكم»، فإن انتماءه الديني أضاف بعدا إنسانيا لجهوده ووفر غطاء شرعيا يستند عليه في نضاله السلمي ضد نزعة الشر التي حاولت حرف نضاله السلمي لساحة العنف التي تجيد استخدامها.
- المساواة من أجل الجميع:
صحيح أنّ وطأة التمييز كانت شديدة على المواطن الأسود، إلا أنّ سياسة الاستئثار لم تستثن أحدا. وقد تنبه كنغ لما تتعرض له فئات أخرى في مجتمعه من اضطهاد طبقي فوسع دائرة نضاله؛ ليقاوم التمييز بجميع أبعاده وبغض النظر عن جهة انتماء ضحاياه. وبسبب هذه النظرة الشاملة التي لم تستعدِ أحدا أو توجّه سهامها ضد فئة محددة عدا سياسات وممارسات التمييز الضارة بالأمة. لقيت دعواته لإزالة التمييز وتعزيز الوحدة الوطنية تعاطفا وتفهما من جميع فئات المجتمع الاميركي. من جهة أخرى فإن وطأة التمييز على طائفته لم تجعله يتشرنق فيها مما فوّت فرصة اتهامه بالعنصرية من قبل خصومه، كما يحلو لممارسيها إسقاطها على الغير. فقد كان فكره وطنيا لا فئويا أو مذهبيا فتمكن من إنقاذ وطنه. فهل يصبح بمعيار البعض منّا عنصريا؟
إن في ذلك درسا نتعلمه لكي ندرك أن معالجة التمييز ليست إثارة للطائفية، وأنّ رفض البعض لسياسات التمييز لا يعني القبول بممارستها على الآخر أو فهمها كذلك.
- التشريع ضد التمييز وحدَه لا يعالج سياسات التمييز وممارساتها:
لم يقتصر نضال كنغ على إلغاء التشريعات الظالمة أو إيجاد تشريعات تجرم التمييز وذلك لمعرفته أنّ هذه التشريعات تبقى حبرا على ورق إذا لم يصاحبها اعتراف سياسي بتساوي حقوق المواطنين. فقد أدرك أنّ الدستور الأميركي استمد أحكامه ونصوصه أساسا من مبادئ الحرية والمساواة، إلا أن هذه المواثيق لم تنصف المواطن الأسود طوال تاريخه. من هنا ركز نضاله السلمي لانتزاع اعتراف سياسي بالمساواة في حقوق المواطنة. فالاعتراف بحقوق الآخر من قبل النظام السياسي هو الحجر الأساس، ومن دونه لا يمكن تفعيل أيّ تشريع مهما بلغت مبادؤه من السمو والرقي الإنساني. فالتشريع هو بمثابة عقد يدوّن ما سبق الاتفاق عليه بين الأطراف المتصالحة؛ لكون المصالحة والاتفاق يسبق التدوين القانوني.
من ناحية أخرى فقد أدرك أنه بالرغم من مستوى الحرية والديمقراطية في أميركا فإن ذلك لم يحقق المساواة للمواطن الأسود مما جعله يعتمد النضال السلمي وسيلة لإحقاق العدالة.
العنصرية نظام لا فرد ا
أدرك كنج أنّ الفرد لا يخلق التمييز العنصري بل يتناغم معه وينفذه حماية لمصالحه وليس بالضرورة اعتقادا وإيمانا به. فالتمييز نظام System له أبعاد وأهداف سياسية. فالدولة العنصرية تستطيع بما تملك من أدوات وإمكانات وسلطات أنْ تصيغ المجتمع على طريقتها ووفق أهدافها السياسية. فالدولة التي تهيمن على أجهزة التعليم والاقتصاد والثقافة والأمن والأعلام وغيرها من مفاصل المجتمع تصوغ خططها وبرامج عملها وفقا لسياساتها، ومن ضمنها سياسة التمييز والفرقة. وتلعب وسائل الإعلام الموجهة دورا محوريا في لعبة خلط الأوراق وتشويش الرأي العام. من هذا المنطلق وجّه كنغ نضاله ضد نظام ظالم لا ضد أفراد معينين في ترسانة العنصرية، فقد نظر إلى الغابة لا إلى الشجرة. فمواجهة الفكرة المنحرفة وفرت عليه جهود الانشغال بمناكفة الأفراد المنفذين، وأبعدته عن مستنقع المواجهة والاستعداء الفردي والفئوي. فقد ناضل ضد سياسة التمييز العنصري لا ضد فرد أو فئة معيّنة. وهكذا استطاع تعرية المنفذين وإحراجهم.
أننا نعيش فترة حرجة في منطقة مضطربة عصفت بها سياسات الاستئثار والتمييز بجميع أنواعها. وقد حان الوقت للتمعن في تجارب الآخرين الذين سبقونا, فلا يكفينا إخفاء رؤوسنا في التراب والتمادي والمكابرة. فمسئولية إحلال التعايش والسلم الاجتماعي محل الاستئثار وقهر الآخر تقع على الجميع دون استثناء. فالتمييز حقيقة ملموسة إن لم نعالجها اليوم سندفع ثمنها غاليا غدا. فرفض الاعتراف بالمرض هو سمة للمريض أطلق عليها علماء النفس مصطلح Denial أي الرفض. إلا أن الاصرار على الرفض لا ينفي حقيقة وجود المرض ولا يفضي إلى علاجه. فهل نصر على تجاهل المرض حتى يفتك بنا؟ سؤال نوجّهه لعقلاء القوم في بلادنا وندعوهم للاستماع إلى نصائح الحلفاء الذين مروا بالتجربة نفسها فتعلموا الدروس منها. فهل نستلهم منهم تجاربهم الناجحة؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 2048 - الإثنين 14 أبريل 2008م الموافق 07 ربيع الثاني 1429هـ