إنْ أَصَرّ نوري المالكي على حلّ جيش المهدي فهو حالِم . وإنْ أصَرّ مقتدى الصدر على جعل جيشه «كاميكازيا» عراقية فهو أيضا حالِم . وما بين الحَالِمَيْن وحُلميهما تكمن المعركة .
لا أظنّ أنّ المالكي لا يعلم، لكنه يبدو كذلك . فجيش المهدي هو صيغة «عسكرتاريا» من العتاد والرجال لا يجاريها أيّ نموذج قائم . أفراده يعتقدون (وهو حقّهم) أنهم يحملون إرث حقبة مهمّة من تاريخ العراق قادها آية الله السيد محمد محمد صادق الصدر، وهي الحقبة التي أعقبت حرب الخليج الثانية وامتدّت حتى سقوط بغداد وما تلاها من أحداث .
مجاميع واسـعة مـن جيش المهـدي وجدت نفسها مـع الملايين من «مواطني الهوامش» الذين انتظروا على الأرصفة دخول القوّات الأميركية «المُحرّرة»؛ ليجدوا أنفسهم أضَاحٍي بلا ثمن لطبقة سياسية يزداد فُحشها السياسي والمالي يوما بعد يوم، فتضخّمت قوائم العاطلين عن العمل بأسمائهم، ثم امتلأت مكبّات القمامة والمشارح الطبية بجثثهم .
ازداد حنقهم عندما رأوا أنّ العراق خسر ومنذ سقوط بغداد « مئتين وخمسين مليار دولار، 45 مليار من تهريب النفط الخام، و45 مليار دولار أخرى من المشتقات النفطية، وحرق أكثر من نصف مليار متر مكعب من الغاز سنويا من دون الاستفادة منها، والاعتماد على 441 بئرا نفطية (فقط) من أصل 1041 بئرا منتجة، وإهمال الطاقة التصديرية للعراق والتي تقدر بـ4.2 ملايين برميل حيث لم يستغل منها إلاّ النصف، أمّا بقية المال المهدور فقد ذهب ضحية الفساد في الوزارات والمؤسسات الأخرى (راجع تصريح نائب رئيس هيئة النزاهة العراقية القاضي موسى فرج بتاريخ 10 ابريل/نيسان الجاري) .
جيوب كثيرة من جيش المهدي ومن خلفهم التيار الصدري رأت كيف تمّ إلغاء لجنة الشئون الاقتصادية واستبدالها بالأمانة العامّة لمجلس الوزراء، لتضطلع بعقد الصفقات الكبيرة خارج جهاز الرقابة، كشراء طائرات عمودية قديمة غير صالحة للعمل وبنادق قديمة مصبوغة رفضتها اللجنة العراقية وفرضتها الشركة الأميركية المصنعة، واستيراد آليات من دول أوروبا الشرقية بنوعيات رديئة، ووجود خمسين ألف راتب وهمي بوزارة الداخلية كلّف خزينة الدولة خمسة مليارات دولار سنويا، بالإضافة إلى فقدان الوزارة لـ 19 ألف قطعة سلاح (راجع تصريحات وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وتصريحات نائب رئيس هيئة النزاهة المشار إليها) .
البعض الآخر من المسحوقين في التيار الصدري رأوا أيضا أنّ تسعين بالمئة من الأدوية المتداولة لم يتم فحصها، بل الأكثر أنّ بعضها قد احتوى على فيروس الإيدز كما حصل ذلك في محافظة بابل (وسط)، بينما لجأت مصحات أخرى لاستخدام المخدِرات البيطرية للآدميين خلال العمليات الجراحية .
لكل ذلك أقول إن إصرار نوري المالكي على نزع سلاح جيش المهدي بالقوّة هو إصرار حالم .
مقتدى الصدر لا يبدو أنه غير مُدرك للظروف الخاصة التي يمر بها العراق . فهو الذي استطاع بتوقيع خاتمه من مدينة قم المقدسة أنْ يُنهي معارك البصرة والعمارة والديوانية، وأنْ يُلغي المظاهرة المليونية يوم التاسع من إبريل الجاري، ويُجمّد جيشه مرتين (أغسطس/آب 2007 وفبراير/شباط 2008) وينعت الخارجين عن دعوته إلقاء السلاح بأنهم «جهلة» ولا يمتّون له بأية صله، ولا أعلم من أشار على الصدر لأنْ يقوم بذلك لكنها باعتقادي خطوات سياسية ذكية أراد بها الرجل الرجوع من نقطة التماس إلى الظل ولو بشكل مؤقت .
هو (أو من أشار عليه) ربما بات يرقب الأحداث في العراق جيّدا، فالسفير الأميركي في بغداد رايان كروكر بدأ يتحدّث عن «الفصل بين العناصر الأخرى في هذا التيار والمجموعات الخاصة داخله والمدعومة من إيران» ويعطي إشارات محددة وإيجابية عن الصدر، كذلك فعل قائد القوّات الأميركية في العراق ديفيد بترايوس عندما وصف مقتدى الصدر بأنه «وجه لحركة سياسية مهمّة وشرعية، وهو قائدها أيضا وجزء من التحالف الذي انتخب رئيس الوزراء» (راجع تصريحات بترايوس بتاريخ 12 إبريل الجاري ) .
المرجعية العليا في النجف الأشرف ممثلة بآية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني بدورها نفت أنْ تكون قد استشيرت في أمر حلّ جيش المهدي، معتبرة قرار الحكومة عدم السماح للأحزاب التي لديها ميليشيات بالمشاركة في الانتخابات المقبلة بأنه « قرار صائب « وهو موقف ستتكأ عليه حكومة المالكي لاتخاذ إجراءات أخرى .
ممثلو مجالس الصحوة السُنّية أيضا أيّدوا المالكي في سعيه لإرساء مؤسسات الدولة وحلّ الميليشيات المسلحة، وكذلك فعل وجهاء عشيرة العبيد وتميم ومؤتمر بلدروز، بل إنّ الشيخ عبد الكريم الجبوري رفع مذكرة إلى الحكومة العراقية، عرض فيها محاربة الصحوات السُنّية للميليشيات الساعية إلى فرض سيطرتها كبديل عن الحكومة الشرعية، ويقصد بها جيش المهدي .
الإيرانيون قالوا وفي تصريح للمتحدّث باسم الخارجية الإيرانية محمد علي حسيني بأن إجراءات حكومة المالكي بالتصدي للميليشيات «قانونية بهدف فرض الأمن والاستقرار » رغم أنّ التأييد كان مشروطا، وصيغ وفق الاتفاق الذي وقّع على أراضيها بين وفدي الدعوة والمجلس الأعلى ومقتدى الصدر (سنتطرق لهذا الأمر بشكل مفصّل في مقال مستقل) .
مسودّة الاتفاق العسكري بين الولايات المتحدة والعراق نصّ على «التزام عسكري أميركي غير محدّد زمنيا في هذا البلد، وقدرة واشنطن على شن عمليات عسكرية في العراق وتوقيف أشخاص لضرورات أمنية من دون تحديد سقف زمني، مع الامتناع عن استخدام الأراضي العراقية قاعدة لشن عمليات هجومية ضد دول أخرى» .
وبالتالي فإنّ هذه المعطيات قد كشفت المشهد العراقي الداخلي للتيار الصدري بشكل لافت، وجعلته يُزاحم التناقضات الدافعة نحو التصعيد في داخل التيار، والتي ربما تعود إلى جماعة أبي سجّاد وأحمد الشريفي وعدنان الشحماني وغيرهم من الفصائل المتشظية والتي رفع الصدر عنها الغطاء الشرعي والسياسي.
ما لا يعلمه المالكي هو أنّ قوّاته لا تمتلك سلاحا للجو ولا دبابات ولا صواريخ متوسطة وبعيدة الأمد، ومعظم أسلحتها هي أسلحة قديمة تستجلبها وزارة الدفاع الأميركية من أوربا الشرقية (هذا ما قاله رامسفيلد مباشرة في أحد المؤتمرات الصحافية) في حين يملك جيش المهدي أسلحة متطوّرة إلى الحد الذي جعل القوّات الأميركية لا تستطيع السيطرة سوى على عشرة قطاعات في مدينة الصدر من أصل سبعين قطاعا، وقصفه المنطقة الخضراء باثنين وخمسين صاروخا خلال أسبوع واحد، وربما تكون معركة الفلوجة (2004) والزركة (2007) والبصرة (2008) خير دليل على ذلك.
التيار الصدري استمرأ التحرك السياسي الجديد بناء علن تلك المعطيات، وأيضا لعدم إعطاء الفرصة للأميركيين وحكومة المالكي لنزع سلاحه في ظل وجود ثمان وعشرين ميليشيا مُسلّحة في العراق تابعة لأحزاب وجماعات وكتل مختلفة كالدعوة والمجلس الأعلى وحركة حزب الله ومنظمة بدر، بالإضافة إلى الأحزاب السُنّية وأهمّها قوّات الصحوات التي يزيد عددها عن ثمانين ألف فرد . وبالتالي فهو يرى أنّ جزءا مهما من قوته تتمثل في سلاحه الذي فرضه في العديد من المواقف العسكرية والسياسية، وأنّ نزعه سيعني إضعافا له .
وربما بات لزاما على التيار الصدري الآنَ أن يتنبّه إلى أوضاعه الداخلية والتنظيمية، وهي ضرورة إيجاد خطوط متوازية ما بين المنحى السياسي والعسكري للتيار والمنحى الاجتماعي، للاحتفاظ بوحدته وعدم السماح لمزيد من الترهل في أطرافه، وربما تناهى إلى أسماع السيد مقتدى الصدر أنّ بعض المحسوبين على تياره في البصرة قد رفعوا شعارات تمسّه شخصيا عندما ردّدوا باللهجة العامية العراقية شعار نداء لوالده آية الله السيد محمد محمد صادق الصدر بترديدهم «عذرا يالسيد .. ابنك جندي وسرحناه » في إشارة إلى تمردهم عليه .
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2047 - الأحد 13 أبريل 2008م الموافق 06 ربيع الثاني 1429هـ