العدد 2046 - السبت 12 أبريل 2008م الموافق 05 ربيع الثاني 1429هـ

مقدّمات أبريل اللبناني... وما بعده

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اليوم يتذكّر اللبنانيون تلك اللحظة التي اندلعت بسببها الحروب الأهلية والإقليمية في بلاد الأرز. اللحظة كانت تاريخية وهي نتاج تراكمات تجمعت روافدها على امتداد زمني اختلط فيها «الداخل» بـ«الخارج» وتزاوج خلالها «القومي» بـ« القطري» و«الطائفي» بـ«المذهبي» و«الديني» بـ«باليساري» و«اللبناني» بـ«العربي» و«الإسرائيلي» بـ«الأميركي» و«السوري» بـ«الفلسطيني» و«المسلم» بـ«المسيحي» و«الغني» بـ«الفقير» و«الجبلي» بـ«الساحلي» و«المقاوم» بـ«المسالم» و«الشمال» بـ«الجنوب» و«الشرق»بـ «الغرب» .

«اختلط الحابل بالنابل» كما يُقال في لبنان. ونتيجة اختلاط هذه العناصر التي تفاعلت كيماويا انطلقت شرارة انفجار تصادف وقوعه في 13 إبريل/ نيسان 1975. بدأت الحرب خفيفة والكل توقع أنْ تنتهي خلال ساعات أو أيام على الأكثر. أخطأ الجميع في التقديرات. فحصلت جولة أولى في مثلث عين الرمانة/ الشياح/ كنيسة مار مخايل. توقفت الأولى لمدة أسبوع وبدأت الثانية وكانت أعنف من السابقة وأخذت تنتشر إلى محيط عين الرمانة (فرن الشباك) ومحيط الشياح - مار مخايل (حي ماضي). توقفت الجولة الثانية لإعطاء فرصة للوساطات العربية ثم استأنفت الحرب جولتها الثالثة وكانت الأعنف وأوسع جغرافيا من السابقتين فامتدت إلى الحازمية - مستديرة الصياد شرقا وحارة حريك والحدث/ الشويفات غربا.

الجولات الثلاث الأولى كانت تمهيدية وشكّلت مجال اختبار للقوى لمدة ثلاثة أشهر تقريبا. وتوقفت بعدها النيران لتمضية فصل الصيف الذي يعتمد عليه الاقتصاد اللبناني (الفنادق وقرى الاصطياف). عاد المغتربون إلى ديارهم (أوطانهم الثانية) لتبدأ دورة جديدة من العنف أشمل وأوسع من الجولات الثلاث السابقة.

تجددت الحرب التي استعرت في سبتمبر/ أيلول 1975 في أسواق بيروت التجارية القديمة وبدأ التراشق المدفعي يتوزّع القذائف على الأحياء السكنية؛ لتشمل الصيفي والأشرفية والسوديكو (بيروت الشرقية) المتحف ورأس النبع وحي اللجا (بيروت الغربية).

آنذاك تراجعت حدّة المواجهة في الجنوب مع «إسرائيل» وبدأت المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع الأحزاب الوطنية والتقدمية تنشغل بالمعارك الداخلية مع «القوى الانعزالية».

«القوى الانعزالية» اتهمت الحركة الوطنية اللبنانية بخيانة لبنان والتحالف مع الفصائل الفلسطينية بقصد تحطيم الدولة وتوطين الفلسطينيين في بلاد الأرز. وطالب «الانعزاليون» بمنع التوطين وسحب السلاح من المخيّمات ووقف الهجمات من الحدود اللبنانية ونشر قوّات دولية في الجنوب وتوزيع الفلسطينيين على الدول العربية؛ لأنّ مساحة بلاد الأرز لا تتسع وغير قادرة على استيعاب «شعب» ينتمي إلى دين واحد.

«القوى الوطنية» اتهمت الأحزاب الانعزالية (الكتائب، الأحرار، المردة، حرّاس الأرز... الخ) بالتعامل مع «الأجنبي» لضرب البندقية الفلسطينية. وطالب «الوطنيون» بتعديل النظام الطائفي ومساواة المسلم بالمسيحي واعتماد تنمية متوازنة لا تميز بين الجبل والأطراف (الجنوب، الهرمل، وعكار).

الاتهامات كانت قوية وكلّ طرف حمّل المسئولية للآخر. وبما أنّ كل فريق تمسك بمواقفه كان لابدّ من استئناف دورة العنف والقتل والخطف واقتحام الأحياء والقتل على الهوية. وهكذا أخذت الأيام تمر، والأسابيع، والأشهر. توقفت المؤسسات عن العمل، وتراجعت «الدولة» إلى مساحات جغرافية معزولة وانتشرت الميليشيات وتفشت ظاهرة الطفيليات الحزبية وزعماء الأحياء. وبدأ النهب وامتدت السرقات لتطاول المصارف والفنادق والمخازن والمستودعات والمستوعبات. المطار توقف وانهار وسقط. المرفأ انتهت إعماله ونهبت مستودعاته وهربت السفن بعيدا عن أرصفته. لا مدارس، لا كهرباء، لا مياه نظيفة، لا أمن، لا مواصلات. المدينة التي لا تنام تم تخديرها بالأيديولوجيات التي غذت المدافع والرشاشات بالتبريرات السياسية والقناعات الذاتية. وهكذا تحولت «سويسرا الشرق» إلى «هانوي الغرب» وبدأت «باريس الشرق» تتقدم رويدا للدخول في عصر الفحم الحجري وسط صيحات النصر وصرخات «الثورة الدائمة».

كل هذا العسف الرهيب جرى تحت مسميات الحق والعدالة والمساواة والإنسانية والحرية. وتحت سقف شعارات التقدم والإخاء جرت مجازر في الشمال والهرمل والبقاع والجنوب والجبل وبيروت. فالعاصمة لم تعد تكفي لتفريغ طاقات العنف فانتقل القتل إلى صور وصيدا وطرابلس وابيد العشرات واختطف المئات من الأبرياء وتم تصفية مخيمات وأحياء ومدن صغيرة ونحر الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال والشباب والشابات.

عرس الدم

كلّ هذا العنف المجاني (العفوي والمنظم) جرى في سياق الدفاع عن المقدّسات والخوف عليها من التمزق والاندثار. اللبناني خائف من الفلسطيني. الفلسطيني خائف من اللبناني. المسيحي خائف من المسلم والمسلم خائف من المسيحي. المسلم يتحالف مع الفلسطيني ويُدافع عن بندقيته خوفا من الجيش المسيحي. والمسيحي يُدافع عن الجيش خوفا من بندقية الفلسطيني. المسلم يُطالب بالمساواة مع المسيحي. والمسيحي يُدافع عن صلاحيات وحقوق تضمن له وجوده «الأقلي» في محيط مسلم «أكثري». المسلم يُدافع عن عروبة لبنان والمسيحي يُكافح لحماية سيادة لبنان. المسلم يُطالب بتحصين الجنوب ودخول بلاد الأرز معترك التحرير القومي والصراع العربي ضد الخطر الصهيوني. والمسيحي يُطالب بوقف توريط لبنان في مواجهة لا يستطيع القيام بمهماتها نيابة عن الدول العربية التي أوقفت سياسة الحروب ودخلت في طور الهدنة والتسويات.

«اختلط الحابل بالنابل» ثانية حين دخلت سورية على الخط وساعدت «القوى الانعزالية» في مواجهة «القوى العروبية». أصيبت الأحزاب الوطنية واليسارية بصدمة أيديولوجية من موقف دمشق (عاصمة العروبة) واحتارت في تفسير هذا السلوك القومي الذي خلط الأوراق وكسر المعادلة وجرف معه تحليلات وتنظيرات وأسس عليها قراءات تتحدّث عن «مؤامرة» و«صفقة» وسيناريو أميركي - إسرائيلي لإزاحة لبنان (المسلم المسيحي) من الخريطة السياسية في المشرق العربي أو «شرق المتوسط».

«عرس الدم» لم تتوقف جداوله حتى تعبت الأطراف من القتل وتوصّلت إلى قناعة أنّ الحرب لانهاية لها ولابدّ من التسوية. والتسوية تعني أنّ المعادلة انتهت بالتعادل ولابدّ من العودة إلى «الدولة» و«الدستور» والانتخابات والديمقراطية لاحتواء المشكلات المزمنة والمستحدثة.

علق القتال ولكن الحرب كما يبدو لم تتوقف. المخزون من العنف لم يستنزف ولا تزال الخزانات والمستوعبات والمستودعات تحتوي على محركات بشرية تولّد طاقات لا تنتهي من شرارات القوة النيرانية.

الآنَ يبدو أنّ لبنان يسير على درب 13 إبريل بطريقة مقلوبة اختلطت فيها الأوراق من جديد وعاد «الحابل» يتداخل بـ «النابل». ومَنْ يقارن ذاك اليوم في تلك السنة يلحظ التقارب بهذا اليوم وهذه السنة. الأفكار أعيد إنتاجها. والشعارات ارتسمت بألوان مغايرة. والمنطق يكرر نفسه وربما التاريخ. عقارب الزمن التي تحركت عادت للتوقف مجددا على 13 إبريل. فهل لبنان بحاجة إلى حروب أهلية وإقليمية جديدة ليتعلّم الدرس الذي فشل في استخلاص تجربته وعبره؟ أهل لبنان يرفضون الحرب ولكنهم لا يترددون في استخدام كلّ الوسائل التي تؤدي إلى انفجارها. فهذا يريد استرداد «حقوق المسيحيين» التي سلبت منه في «اتفاق الطائف». وذاك يرفض «توطين الفلسطينيين» خوفا على التوازن الديمغرافي. هذا يريد قتال «إسرائيل» وذاك لا يُريد. هذا يُطالب بالعدالة وذاك يَطلب الحرية. هذا يتهم أميركا بالتدخل وذاك يتهم سورية بزعزعة الكيان.

البنادق والصواريخ والوقود أصبحت جاهزة منذ وقت. والمفارقة أنّ موعد 13 إبريل تأخر. وهذه «مفاجأة» تحتسب لمصلحة «العبقرية» اللبنانية.الحرب المفترضة لم تقع. ولبنان الآنَ من دون رئيس، ومن دون برلمان، ومن دون حكومة «كاملة». البلد مشطور ودرجة حرارته السياسية مرتفعة إلى قاب قوسين من الجنون... ومع ذلك حقق نسبة نمو تجاوزت 3 في المئة في سنة 2007 ودخلت مصارفه 11 مليارا من الدولارات في العام الماضي وسجل القطاع العقاري نسبة مبيعات غير مألوفة. الدولة الغائبة أو الضعيفة والمشلولة نجحت في إعادة إعمار 60 في المئة من كارثة العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006. أعيد ترميم 72 جسرا من أصل 79 دمرت. أعيد بناء وتجديد 286 مدرسة من أصل 286 مدرسة دمرت خلال العدوان. «المال السياسي» سجّل دفقا هائلا من كل حَدَب وصوب على الأسواق الأهلية الموزعة على 8 و14 آذار.

كيف يمكن قراءة الموضوع ؟ لا أحد يمتلك الجواب الكامل والرؤية الصافية. زمن المعجزات ولّى. إذا لابدّ من الحرب. وأضحية العيد أو المناسبات تسبقها عادة تغذية حتى تكون «النعجة» سمينة. احتمال عودة لبنان إلى زمن التوحش مسألة واردة... إلا إذا حدثت معجزة. المعجزة مستبعدة ولكن الإيمان بوقوعها ليس خطأ. وهذا الأمر يحتاج إلى تأمل... وانتظار.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2046 - السبت 12 أبريل 2008م الموافق 05 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً