التخبّط العملاني الذي تُعاني منه سلطة «حماس» في قطاع غزّة يَكشف عن عمق وأبعاد ذاك الخلل بين الموقف المبدئي والسياسة البراغماتية. فالحركة منذ نجاحها في الانتخابات التشريعية ودخولها شريكة مع «فتح» في تقاسم السلطة التنفيذية وقعت في مأزق أيديولوجي أودى بها إلى اتخاذ خطوات اتسمت بالانفعال نتيجة ذاك الضياع في تحديد الاختيارات وبرمجتها وفق جدول أولويات.
أدى الخلل بين الأيديولوجي والسياسي إلى تضليل قيادة «حماس» ولم تعد قادرة على تحديد مشروعها، الأمر الذي رفع من درجة حرارة التوتر في علاقتها مع شريكها في السلطة. وبسبب تلك الشراكة القائمة على نوع من اقتسام المسئولية العملية انتهت ثنائية السلطة إلى مواجهة ميدانية وانشطار القرار الفلسطيني وتبعثره إلى هيئتين: واحدة في غزّة وأخرى في الضفة.
نجاح «حماس» في السيطرة على القطاع والانفراد بإدارته والإشراف على ضبط أمنه وضع الحركة أمام مسئوليات مباشرة ولم تعد قيادتها قادرة على التملّص من مواجهة الحقائق الميدانية وما تتطلبه السلطة من خدمات تلبي حاجات الناس اليومية فضلا عن حق الدفاع عن النفس في مواجهة الاحتلال والحصار.
انتقال «حماس» من ازدواجية السلطة وتقاسمها مع «فتح» إلى الانفراد بها وضع قيادة الحركة في مكان صعب لا يمكن إدارته من دون أخذ حاجات القطاع اليومية في الاعتبار. وشكّل هذا الموقع الرسمي نقطة تحوّل في برنامج «حماس» وعطّل عليها إمكانات توظيف شعبيتها في دائرة تضمن لها الاستمرار في مكافحة الاحتلال وتأمين حاجات القطاع في وقت واحد.
منذ سنة تقريبا تُعاني «حماس» من ازدواجية اللغة السياسية. فهي من جانب تؤكّد التزامها بالبرنامج المبدئي الداعي إلى التحرير الكامل والشامل ورفض التفاوض وعدم الاعتراف بالقرارات الدولية و «إسرائيل». ومن جانب آخر تطلق تصريحات براغماتية تدعو حكومة تل أبيب إلى التفاهم على هدنة عسكرية توقف بموجبها إ طلاق الصواريخ مقابل تسليك المعابر وتسهيل مرور البضائع والأشخاص.
ازدواجية اللغة التي تعكس تلك المفارقة بين المبدأ والسياسة أو بين الحق والقدرة على انتزاعه ليست جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني وكلّ حركات التحرر الوطني. حركة «فتح» مرت بالتجربة نفسها وعانت المرارة بسبب ازدواج الحق مع القدرة. ومَنْ يُراجع برنامج «فتح» عند التأسيس ويقارنه بالتحوّلات التي طرأت يكتشف ذاك الفارق بين المبدأ والإمكانات. ومَنْ يقرأ استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية في زمن التأسيس وبرئاسة أحمد الشقيري يُلاحظ تلك الافتراقات بين المبادئ العامّة والنتائج العملانية التي توصّلت اليها. فالمنظمة التي تأسست بقرار عربي قبل وقوع حرب يونيو/ حزيران 1967 حددت أهدافها الأولى بتحرير تلك الأجزاء المغتصبة في العام 1948. آنذاك كانت الأراضي المحتلّة تقتصر على تلك التي تقوم عليها الآنَ دولة «إسرائيل». وبعد العدوان توسّع نطاق الأراضي المحتلّة؛ ليشمل كلّ فلسطين من النهر إلى البحر. وبسبب هذا التطوّر السلبي ظهرت لاحقا نظريات السلطة الفلسطينية المرحلية وتقسيم الأراضي المحتلّة إلى صنفين: الأوّل احتل في العام 1948 والثاني احتل في العام 1967.
أدّى التصنيف الجديد لأجزاء الأراضي المحتلة إلى ظهور نوع من البراغماتية دفع بالقيادة الفلسطينية إلى تجزئة الاحتلال إلى مرحلتين وبالتالي تجزئة التحرير إلى محطتين ما ساهم لاحقا في ظهور فكرة الاعتراف بالكيان الصهيوني على جزء (1948) ورفض الاحتلال على الجزء الآخر (1967).
الاعتراف بالأمر الواقع
فكرة الاعتراف تأسست على قرار دولي (242) ومنها انطلقت منظمة التحرير للبدء في إعادة التفكير بالبرنامج الأوّل الذي صدر قبل حرب يونيو والذهاب من جديد نحو صوغ برنامج سياسي وصف آنذاك بالمرحلي. بعدها تحوّل المرحلي إلى نهائي. حتى النهائي وصل بدوره إلى حائط مسدود بسبب رفض الاحتلال الإقرار به والالتزام بفقراته التي تنصّ على الانسحاب من كل القطاع والضفة والقدس.
هذا التنازل عن الحق المبدئي فرضته الظروف والإمكانات والمتغيّرات والتحوّلات ولم يتبلور في صيغ سياسية إلاّ بعد اندلاع حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973 التي أسفرت عن توقيع اتفاقات «كامب ديفيد» بين مصر وحكومة مناحيم بيجن وتوقيع اتفاقات هدنه عسكرية بين دمشق وتل أبيب في العام 1974.
المسألة إذا موضوعية وليست ناجمة عن إرادة ذاتية، وهي تتصل أساسا بالقدرة وغياب استراتيجية عربية واضحة ومتكاملة وعدم استعداد المحيط (دول الجوار) على تحمّل المزيد من الحروب والاحتلالات. وهذه المسألة التي تدركها «حماس» جيّدا أسست تلك الخلافات المبدئية بين الفلسطينيين وساهمت لاحقا في تشطير الشعب إلى أجزاء تتوزّع على مواقع ومناطق بين 1948 و1967.
بسبب هذه المفارقة بين الحق والقدرة انطلقت «حماس» أيديولوجيا في محاولة منها لاستعادة البرنامج المبدئي الذي تأسست عليه «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية. وشكّلت هذه المفارقة مناسبة، لإعادة تجديد طرح مشروع التحرير الشامل والكامل من البحر إلى النهر. وساهم فشل المفاوضات بين سلطة ياسرعرفات وحكومات الاحتلال في إعطاء فرصة لحركة «حماس» لتطرح برنامجها البديل بصفته يشكّل صيغة لا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها.
هناك إذا مجموعة عوامل موضوعية وذاتية اشتركت عمليا في إنتاج «حماس» وبرنامجها السياسي. وهذه العوامل المجتمعة تدركها قيادة الحركة وهي بناء عليها أسست ذاك الاختلاف الأيديولوجي مع «فتح» ومنظمة التحرير. وبسببها اكتسبت تلك الشعبية في الشارع المعزول والمقهور ما جعل «حماس» قوّة منافسة أعطاها ذاك الزخم الانتخابي في جولات الاقتراع البلدية ومن ثم النيابية.
الآنَ بدأت «حماس» بمراجعة ملفها والعودة إلى المربع صفر وأخذت تُعيد النظر ببعض النقاط التي شكّلت مادة للتمايز السياسي عن «فتح» ومنظمة التحرير. قيادة الحركة أعلنت مرارا عن استعدادها للاعتراف بحدود 1967 وكررت في أكثر من تصريح عن رغبتها في التوصّل إلى هدنة عسكرية توقف بموجبها إطلاق الصواريخ وتقوم بعملية تبادل الأسير (الجندي الإسرائيلي) بالأسرى الفلسطينيين. هذا الاستعداد للتفاوض والتبادل والتجميد والهدنة الذي تبديه قيادة «حماس» يثير أسئلة تتصل بمحاور مختلفة منها. ماذا جرى للبرنامج المبدئي وكيف يمكن التعامل معه في ضوء ظهور سياسة عملانية وبراغماتية؟ ولماذا تصرّ «حماس» على تأكيد الاختلاف مع «فتح» بينما هي بدأت تتوجّه ميدانيا إلى المكان الذي تقف عليه منظمة التحرير؟
ازدواجية اللغة بين المبدأ والممارسة تتطلب إعادة نظر تتسم بالجرأة؛ لتوضيح تلك المفارقات بين سلطة (الضفة) تريد التفاوض وسلطة (غزة) لم تعد في موقع يرفض مبدأ التفاوض وعقد هدنة طويلة (تجميد المقاومة) تنهي خلالها ما وصف سياسة رفض القرارات الدولية والقبول بالأمر الواقع من دون اعتراف بالكيان. فهذا النوع من الالتفاف حول الحقائق يطرح على «حماس» مجموعة مهمات تبدأ أساسا بالمصالحة مع «فتح» بعد أنْ تقلّصت الخلافات المبدئية على برنامج التحرير الشامل والكامل. وتنتهي أيضا بالتفاهم على صيغة متقدّمة من العلاقات السياسية الناضجة مع مصر لتسهيل المرور والعبور.
الأقرباء أولى بالمعروف. فالهدنة مع «فتح» والتصالح مع الشارع الفلسطيني والتفاهم مع مصر لتنظيم بوابة العلاقات الثنانية كلّها عناصر يجب أنْ تسبق تلك الإشارات والغمزات والإيحاءات التي تطلقها «حماس» باتجاه حكومة أيهود أولمرت. فالإغراءات (الإفراج عن الأسير) واستجلاب العروض (هدنة مقابل وقف الصواريخ) لا تتناسبان مع سياسات التصعيد ضد «فتح» وسلطة محمود عباس والحكومة المصرية تحت شعارات غير مفهومة ومسميات لم تعد موجودة.
التخبّط العملاني الذي تُعاني منه «حماس» منذ سنة تقريبا في مواجهة الحقائق الميدانية بحاجة إلى مصارحة ومكاشفة حتى يمكن تجاوز معضلاته البنيوية ومعالجة ذاك الخلل المتراكم بين الموقف المبدئي والسياسة البراغماتية. فإذا كان المبدأ لا يمنع من إرسال إشارات للتفاوض مع الاحتلال فإن البراغماتية أيضا لا تمنع التصالح مع «فتح» واحترام قانون المصالح مع حكومة مصر.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2045 - الجمعة 11 أبريل 2008م الموافق 04 ربيع الثاني 1429هـ