العدد 2043 - الأربعاء 09 أبريل 2008م الموافق 02 ربيع الثاني 1429هـ

المثقفون العرب وذكرى سقوط بغداد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

سقوط بغداد في 9 أبريل/ نيسان 2003 شكّل مناسبة سنوية للكثير من الكتّاب الصحافيين والمثقفين العرب لإعادة التفكير في هزة تاريخية لا يمكن لها أنْ تمر من دون أنْ تزعزع تلك الأنماط من القراءات التي تعوّد على سماعها المشاهد العربي.

الآنَ وبعد مرور خمس سنوات على ذاك اليوم الرهيب تعيد قراءات المثقف (الكاتب الصحافي) تكرار مواقف تبدو كانت مقررة أو مصنوعة سلفا. والقراءات التي ظهرت في المناسبة حرصتْ على تأكيد مواقف هي أقرب إلى الشعارات وأبعد من أنْ تكون على سويّة الزلزال التاريخي. هناك مَنْ قال إن العراق اليوم أفضل من السابق. لماذا؟ لأنّ العراق برأيه أفضل من دون صدّام مهما تكن النتيجة العملية التي آلت إليها بلاد الرافدين. وهناك مَنْ قال إنّ العراق اليوم أسوأ من السابق. لماذا؟ لأنّ البدائل التي صنعتها أميركا ليست أفضل من نظام صدّام. وهناك مَنْ قال إن الولايات المتحدة فشلت في مشروعها وهي على مقربة من إعلان هزيمتها. لماذا؟ لأن واشنطن دفعت كلفة بشرية ومالية ولم تستفد من النتائج التي ابتغتها من وراء الاحتلال. وهناك مَنْ قال إن المقاومة العراقية انتصرت. لماذا؟ لأنّها نجحت في منع الاحتلال من الاستقرار وعطلت عليه بناء دولة تابعة لواشنطن. وهناك مَنْ قال إن إيران هي الطرف المستفيد من إسقاط النظام. لماذا؟ لأنّها أزاحت تلك القوّة التي منعتها من التمدد في الأقاليم وخارج حدودها الجغرافية. وهناك مَنْ قال إن إيران كسبت جزئيا (تكتيكا) ولكنها تورّطت استراتيجيا في مواجهة مفتوحة مع دولة عظمى أنزلت قوّاتها في جوارها الجغرافي.

إلى جانب هذه القراءات السياسية والاستراتيجية ظهرت تعليقات مذهبية وطائفية وأقوامية على تقييم المناسبة. فهناك مَنْ هو سعيد بسقوط نظام صدّام؛ لأنه يمثل الجانب المظلم من طائفة معيّنة. وهناك مَنْ هو حزين على سقوط صدّام؛ لأن سقوطه أعطى فرصة للخصوم من طائفة معيّنة للصعود إلى السلطة والتحكّم بثرواتها. وهناك مَنْ كان مع صدّام وأصبح ضده بعد سقوطه حتى يستفيد من المتغيرات ويكسب بعض المواقع والمال. وهناك مَنْ كان ضد صدام وأصبح معه لأنّ عملية إسقاطه اعتمدت على الدبابة الأميركية من دون رادع دولي أو احترام للسيادة والكرامة. وهناك مَنْ هو ضد نظام صدام واستمر ضده ولكنه تحوّل إلى الطرف المضاد للاحتلال والداعم للمقاومة.

كلّ هذه القراءات المتشعبة ظهرت في مناسبة سقوط بغداد وتراوحت بين بعضٍ اعتبر اليوم خطوة نحو التحرير والاستقلال مقابل بعضٍ رأى في المناسبة ذكرى تشبه غزو المغول لمدينة الرشيد. وبين البعض الأول والبعض الثاني يطرح السؤال عن الحقيقة حتى يمكننا استخراج الجواب الصحيح.

المشكلة في القراءات أنها تعتمد تصورات نظرية مبنية على المقدّمات من دون الذهاب إلى النتائج أو هي مبنية على النتائج من دون الرجوع إلى المقدّمات. ومثل هذه القراءات المقطوعة التي تفصل البداية عن النهاية أوتعزل النهاية عن البداية تساهم إلى حد كبير في تحطيم زوايا الصورة وتعطيل إمكانات الاستفادة من دروس تجربة مرة لا تزال حتى الآنَ في طور التداعي نحو مزيد من الفصول غير المرئية. فمَا حصل في بغداد (العراق عموما) لم يستقر على قاعدة نهائية حتى يمكن البناء عليها. كذلك لا يزال الزلزال الذي أحدثته قوّات الاحتلال الأميركية يزعزع البلاد ومدنها في حلقات ارتدادية متواصلة. والضربة التي أعطت مفعولها المباشر قبل خمس سنوات لا تزال ترتد وتعطي تلك المفاعيل غير المباشرة في مختلف الأمكنة والجهات.

صورة محطمة

ضياع المثقف العربي (الكاتب الصحافي) في قراءة المناسبة يعود أساسا إلى عدم القدرة على تقديم حكم نهائي لكارثة لم تستقر على واقع واضح المعالم يمكن التعامل معه موضوعيا. هل انتصرت أميركا أو انهزمت فعلا؟ هذا السؤال يخضع لمقاييس نسبية حتى يمكن تقديم جواب نهائي على فعل لم تتوقف تداعياته. فالجواب يتطلب معرفة بالأسباب التي دفعت قوّة كبرى لإتخاذ مثل هذه الخطوة الحاسمة والتورّط في هذا القرار التاريخي. وعدم وضوح الأسباب الفعلية التي شجّعت واشنطن للذهاب بهذا الاتجاه نحو حده الأقصى يتطلب التوقف قبل إصدار الحكم النهائي وتقدير نسب الانتصار أو الهزيمة. من قال مثلا إنّ تقويض دولة العراق وتفكيكها إلى فيديراليات وتحطيم العلاقات الأهلية وذرها على المناطق الأهلية (الطائفية والمذهبية) هزيمة للاستراتيجية الأميركية في منطقة «الشرق الأوسط». ومَنْ يملك المعلومات التي تنفي أو تؤكد أنّ إدارة واشنطن لم تكن تخطط أصلا للوصول إلى هذه النتيجة التقسيمية. ومَنْ يعرف أولا يعرف بأنّ البيت الأبيض كان على علم ودراية بأنّ تقويض دولة في بلد تتحكّم به سلطة مستبدة لمدة ثلاثة عقود سيؤدّي لا محالة إلى هذا المشهد الدموي الذي انفلش ميدانيا من الجنوب إلى الشمال والغرب والوسط... وبغداد.

الكلام عن الهزيمة والانتصار والمستفيد والخاسر سابق لأوانه ويخضع كثيرا لحكم التاريخ. ولكن الوقائع الميدانية التي نرى بعض مظاهرها تؤكد أنّ العراق كما نعرفه لم يعد موجودا. وأنّ دولة العراق التي كانت لن تعود كما كانت. وأنّ بلاد الرافدين بدأت بالتحوّل إلى دويلات (روافد طائفية ومذهبية) وأخذت بتغذية عناصر التوتر الأهلي في المحيط.

هذه الصورة المحطمة لكارثة لم تكتمل شروطها تتجاوز كل القراءات الطائفية والمذهبية المعطوفة بدورها على تحليلات «عنترية» ترى في استشهاد ألف عراقي شهريا هزيمة للامبريالية الأميركية ومشروعها في «الشرق الأوسط».

التحليلات السياسية المتسرعة للمشهد العراقي تعكس فعلا تلك الصورة المحطمة التي نشاهد زواياها يوميا على شاشات التلفزة والفضائيات. فالصورة المتسلسلة تعكس تلك الشرذمة في القراءات التي تنظر إلى المشهد من زاوية مرسومة سلفا او تلاحق إطار الصورة من دون الدخول في تفصيلاتها المتعبة عقليا والمرهقة للأعصاب. الاختلاف على القراءة يؤكّد أنّ الحادث كان أقوى من القدرة على التحمّل والاستيعاب. وربما الاختلاف يشكل ذاك الشاهد العقلي على تحطم الصورة.

الصورة في ذكراها الخامسة شكّلت مناسبة لإعادة قراءة ذاك اليوم الحزين الذي ظهر على الشاشات والمرئيات من دون رتوش أو مساحيق. فالوقائع اليومية في تاريخنا المعاصر لم تعد تنتظر حتى تصل وإنما تتابع لحظة لحظة من دون حاجة لتلك الفاصلة الزمنية كما كان الحال في عصر ما قبل الفضائيات.

سقوط بغداد في 9 أبريل على مرأى العالم أحدث صدمة كهربائية لا يزال المثقف العربي غير قادر على استيعاب ذبذباتها. فالصدمة كانت قوية حتى لتلك الشريحة من المفكّرين التي كانت على خلاف سياسي مع نظام صدّام حسين.

حتى المعارضة العراقية لم تكن متوافقة على ذاك النهج الذي اعتمدته عصابة «تيار المحافظين الجدد» في التعامل مع دولة عربية لها مكانتها الخاصة ودورها المميّز وموقعها المركزي في ضمان التوازن الاقليمي في منطقة استراتيجية وغنية بالثروات وحساسة في تشعباتها الطائفية والمذهبية والاقوامية.

كانت الصدمة الكهربائية قوية إلى درجة أفقدت المنطقة أعصابها ودخلت في لحظات من الغضب والتوتر والانفعال. كذلك أحدثت الصدمة مفعولا عكسيا حين عطلت إمكانات التفاعل الواعي مع حادث غير عادي. فالسقوط كان أقرب للاسقاط، وهو أشبه بالقنبلة الفراغية التي تستطيع أنْ تقتلع الهدف المطلوب وتقويضه بلحظات وتزيله فجأة عن الخريطة.

الاقتلاع السريع يشبه القنبلة الانشطارية ويحدث أحيانا فجوات ويساهم في تفريغ المكان ولكنه لا يساعد على التأسيس وإعادة البناء. وما حصل في العراق من تجويف بعد اقتلاع الهدف يعطي فكرة سلبية عن مصير منطقة معرّضة للاهتزاز والارتدادات في حال تواصلت تلك القراءات العصبية التي لا تستطيع احتواء الكارثة واستيعاب دروسها تمهيدا لتجاوزها وتجنبا لعدم تكرارها والسقوط فيها مجددا.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2043 - الأربعاء 09 أبريل 2008م الموافق 02 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً