يبدو أن «إسرائيل» تتبنى صفحة من كتاب جورج بوش عن الدبلوماسية العامة: محاولة التأثير على التغطية من قبل الإعلام العربي من خلال مقاطعة أكثر محطات التلفزة تأثيرا في العالم العربي.
يبدو، بحسب آخر الأخبار من القدس، أن حكومة إيهود أولمرت قد قررت أن «الجزيرة» تفضّل «حماس» على «إسرائيل» في نزاع غزة، وسترفض من الآن فصاعدا التعامل مع مراسليها.
يجب الاعتراف بأن «إسرائيل» و «الجزيرة» طالما كانتا صديقتين غريبتين. ولكن مجرد حقيقة أننا نناقش منع محرري «الجزيرة» من الكنيست إنما هو دليل واضح على ما كان علاقة براغماتية جدا في السابق.
لقد فهم الإسرائيليون منذ البداية ما أدركته إدارة الرئيس بوش أخيرا فقط، أن كان من الأفضل للمسئولين الإسرائيليين أن يستخدموا «الجزيرة» لشرح سياسات الدولة للعالم العربي بكلماتهم الخاصة بدلا من إضفاء الشيطانية على المحطة، وأن يتركوا المجال لمقدمي برامجها ليذكروا آراءهم الشخصية عن السياسة الإسرائيلية. الأمر يتعدى كون «الجزيرة» لها مكتب في «إسرائيل»، بل إن الإسرائيليين يستطيعون مشاهدة كل من المحطة العربية و «الجزيرة» باللغة الإنجليزية كذلك، وكلتاهما لا يمكن الحصول عليها ببساطة في الولايات المتحدة.
ليس الأمر أن الإسرائيليين يعانون من السذاجة، فهم يعلمون جيدا سياسة المحطة، ومركزها قطر، بأن تقديم «الرأي والرأي المعاكس» لا يغير حقيقة أنها، بحسب رسالتها المعلنة، «خدمة إعلامية عربية». وهذا يعني أنها تنقل الأحداث في المناطق المحتلة من خلال عدسة كاميرا عربية، تماما مثلما نقلت غزو أفغانستان والعراق من منظور عربي؛ مما أثار حفيظة إدارة الرئيس بوش.
على رغم ذلك، استمرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في اتباع سياسة التعامل مع «الجزيرة»؛ لأن ذلك له معنى استراتيجي جيد.
وقد أشعل نار المقاطعة الجديدة، على ما يبدو، حقيقة أن في الجولة الأخيرة من الهجمات الإسرائيلية على «حماس» في غزة، ركزت «الجزيرة» بشدة على الضحايا الفلسطينيين، حيث اقتربت عدسات كاميراتها من جثث القتلى وأجسام الجرحى، وهو عمل توقف التلفزيون الإسرائيلي عن القيام به مع الضحايا الإسرائيليين للتخفيف من قوة الصدمة والرغبة في الثأر. ولكن هل هناك ما يثير الاستغراب؟ بحسب صحيفة «هآرتس» اليومية فإنه «قتل ثلاثة إسرائيليين وأكثر من مئة وعشرين فلسطينيا، بمن فيهم عشرات المدنيين، قبل تراجع حدة القتال في فترة مبكرة من مارس/ آذار». وهذا بمجمله يثير سؤالا طبيعيا: «ما هو التوازن؟».
لقد وجدت دراسات مختلفة أن الإعلام الأميركي يوفر تغطية أوسع بكثير للقتلى الإسرائيليين مما يوفره للضحايا الفلسطينيين، على رغم أن معدلات القتلى الفلسطينيين أكبر بكثير. وهذا صحيح كذلك وإلى درجة بعيدة بالنسبة للتلفزيون الإسرائيلي. ألا يتوجب علينا إذا أن نتوقع أن يركز الصحافيون والمراسلون العرب، الذين ينقلون أخبارهم إلى الجمهور العربي، على الضحايا العرب؟
وكما أخبرني مراسل «الجزيرة» في الفلوجة العراقية أحمد منصور، مرة، أثناء الحصار الأميركي: «عندما كنت في الفلوجة، ذكّرتني كل فتاة رأيتها بابنتي. وعندما حاولت عزل نفسي عما كان يحدث لم أتمكن من ذلك في بعض الأحيان. كنت كلما رأيت طفلا مصابا أو مقتولا أتذكر ابني. إنهم عرب مثلك، مسلمون مثلك». أوافق على أن «الجزيرة» ليست كاملة. قد تكون مثيرة أحيانا بل ذات رأي منحاز وغير مسئولة، ولكن يمكن قول الشيء نفسه كذلك عن الكثير من القنوات الغربية.
يقول الكثير من المراقبين أخيرا، حتى داخل «الجزيرة»، إنه يوجد انحياز مقرر لصالح «حماس» ضد السلطة الفلسطينية بقيادة «فتح». ولكن «الجزيرة»، مثلها مثل العالم العربي، ليست كتلة واحدة متماسكة. فغرفة الأخبار فيها منقسمة بين أنصار «حماس» والإسلام السياسي، والوطنيين القوميين العرب، الذين ينزعون إلى أن يفضلوا السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها «فتح». في هذه الفترة تسيطر المجموعة التي تساند «حماس». الادعاء القائل إن تغطية «الجزيرة» للأحداث في غزة تبني الدعم والمساندة لـ «حماس» صحيحة من حيث الأساس. ولكن في أي وقت يرى الناس أفرادا من وسطهم يموتون فإن ذلك يلطخ سمعة المهاجم ويساعد أي جيش يدافع عن الذين يتعرضون للهجوم. لقد رأينا ذلك أخيرا في حرب العام 2006 بين «إسرائيل» وحزب الله، التي تجمع فيها اللبنانيون والعرب من كل التبعيات السياسية وراء قضية حزب الله.
الأمر الذي يثير السخرية في هذه العاصفة هو أن حليف «إسرائيل» في محاولتها السيطرة على رسالة «الجزيرة» هي جامعة الدول العربية نفسها. فقد تبنى وزراء الإعلام العرب أخيرا دستورا جديدا للفضائيات العربية يعطيها الحق في سحب شريط القنوات التي «تعرّض للخطر السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العام والآداب العامة في المجتمع، وتلك التي (تبث أية مواد تحث على العنف والإرهاب أو تعني ضمنيا أن جريمة ما أو مرتكبيها هم أبطال، أو تقوم بتبرير حوافزهم)».
امتنعت حكومة قطر، التي تموّل «الجزيرة»، عن التصويت؛ فهي تعلم أن القناة تتمتع بشعبية في قصور العالم العربي كما في أروقة الكنيست. وهذا هو سبب كونها تتمتع بشعبية وتأثير في أوساط الجمهور العربي، وسبب سعي الحكومات غير العربية - إسرائيلية أكانت أم أميركية - إلى التأثير على العرب لتجاهل القناة تحت طائل التعرض للخطر.
* مدير مركز كمال أدهم للتدريب الصحافي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، والمقال ينشر بالاتفاق مع خدمة كومن غراوند الإخبارية.
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2043 - الأربعاء 09 أبريل 2008م الموافق 02 ربيع الثاني 1429هـ