ملفات «الشرق الأوسط الصغير» الثلاثة (العراق، فلسطين ولبنان) لاتزال حتى الآن معلقة ويرجح أن تبقى على حالها في انتظار اتضاح صورة المتغيرات الدولية والإقليمية في الفترة المقبلة.
الملف العراقي طرأت عليه بعض التعديلات في الأسابيع الماضية بعد أن انكشف داخليا على مجموعة صراعات أهلية داخل الطائفة نفسها. فالملف الذي بدأ ضد الاحتلال تم تحويره خلال الفترة التي أعقبت سقوط بغداد في 9 أبريل/ نيسان 2003. والنضال الذي بدأ في مواجهة الاحتلال تراجعت حدته نسبيا قياسا بذاك الاقتتال الأهلي بين المجموعات السكانية. والمقاومة التي تأسست لطرد الجيش الأميركي من بلاد الرافدين تناسلت إلى «مقاومات» محلية بين السنة والسنة (الصحوة والقاعدة) والشيعة والشيعة (التيار الصدري والفيلق البدري). ويرجح أن تواصل «المقاومات» الأهلية توليد انقسامات أقوامية وقبلية تمتد في بعض حالاتها إلى الجوار الجغرافي.
الملف الفلسطيني طرأت عليه أيضا بعض التعديلات في المهمات المركزية نتيجة الانقسام السياسي الحاصل بين «فتح» و «حماس» وظهور نزعة تغلّب الخلاف الأهلي وتعطيه أولوية على حساب طرد الاحتلال وتفكيك مستوطناته. ويرجح أن تستفيد تل أبيب من هذا الخلاف الفلسطيني وتستغله ذريعة للتهرب من مسئولية تنفيذ تلك الاستحقاقات التي نصت عليها القرارات الدولية أو تلك التفاهمات الثنائية التي وقعت بين الطرفين.
الملف اللبناني بدوره دخل منعطفات جديدة بعد أن أقفلت طرقات الحل من مختلف الجهات. والانقسام السياسي المعطوف على تجاذبات أهلية دفع فرص الحل إلى التراجع بانتظار أن تتبلور الاتصالات العربية - العربية المترافقة مع اتصالات لبنانية - عربية على صيغة «مشروع تسووي» ينقذ الكيان من التفكك والانهيار.
الملفات الثلاثة ساخنة. وسخونتها التي اشتدت محليا بسبب انفتاحها على صراعات أهلية خفية محكومة بدرجة ارتفاع حرارة الفضاءات الإقليمية والدولية. فالأزمات الثلاث ليست محلية الصنع، وهي وإن انكشفت داخليا (أهليا) على عناصر قابلة للانفجار فإنها لاتزال خاضعة للمسار الدولي وما يحمله من متغيرات في سياسة التحالفات الإقليمية. فالجانب الخارجي وامتداداته الفرعية يلعب دوره في تطوير خريطة الصراعات الأهلية وإخضاعها وإعادة توظيفها في سياسات تخدم المشروع الأميركي في منطقة «الشرق الأوسط».
الولايات المتحدة لاتزال حتى اللحظة تضع الملف العراقي على رأس جدول أولوياتها السياسية. والصراع على بلاد الرافدين الذي تحول منذ فترة إلى نقطة فاصلة في أجندة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في معركة الرئاسة الأميركية دخل منذ سنة تقريبا مرحلة مراجعة بناء على تلك التوصيات التي وردت في تقرير بيكر - هاملتون. والمراجعة التي استندت إلى توصية تقترح على إدارة جورج بوش الاتصال بطهران ودمشق للتفاهم على خطة تخفف حدة المقاومة وتضمن ذاك الانسحاب المشرّف من العراق وصلت كما يبدو إلى طريق وعر في مخارجه ومداخله. فالإدارة أجرت سلسلة اتصالات وعقدت لقاءات «فنية» و«تقنية» وكسبت الوقت وخففت الخسائر ونجحت في تخليق انقسامات أهلية أضعفت إرادة المقاومة وعطلت عليها النمو والتطور بالاتجاهات الصحيحة.
الآن بدأت إدارة بوش تعيد النظر في نجاعة تلك الاتصالات وأخذت تفكر في تمديد إقامة الاحتلال وعدم ربط الانسحاب بجدول زمني. وهذا النوع من التفكير لا يستبعد أن يؤسس مجموعة علاقات داخلية وإقليمية تعتمد مبدأ تأمين ضمانات لحماية الاحتلال من المقاومة مقابل إغراءات تقلل نسبة مخاوف الأطراف الإقليمية من احتمال حصول ضربة استباقية. والتفكير الأميركي الذي أخذ ينمو على قاعدة تراجع المقاومة ضد الاحتلال وانقلاب القوى الأهلية على بعضها بعضا ينتظر بعض الخطوات الميدانية للتعرف إلى مدى استعداد القوى الإقليمية للتفاوض بشأن مستقبل العراق وثروته النفطية ودورها في تطويع الملفات الأخرى وتحديدا فلسطين ولبنان.
فلسطين ولبنان
الأولوية السياسية الثانية في جدول أعمال الإدارة الأميركية تتركز الآن على الملف الفلسطيني انطلاقا من ضمان أمن «إسرائيل» وحمايتها من صواريخ «حماس» في قطاع غزة وتعطيل المفاوضات مع «فتح» في الضفة الغربية. فواشنطن تعتبر مسألة التفاوض على الانسحاب وما تعنيه من تفكيك للمستوطنات وبناء سلطة قوية وقادرة لا تقل خطورة عن الصواريخ. فالأخيرة مسألة أمنية بينما التفاوض يشترط تفكيك المستوطنات أساسا لنجاحه. وهذا يعرض برأي البيت الأبيض وجود الكيان العبري للتفكك والانهيار.
الأولوية السياسية الثالثة في أنشطة إدارة بوش تتجه بحذر نحو احتواء أزمة الملف اللبناني ومنعه من الانفلاش نظرا إلى كونه يتضمن مجموعة أوراق أهلية ممتدة جغرافيا وإقليميا. والملف اللبناني الذي انعطف داخليا بعد عدوان صيف 2006 وصدور القرار الدولي 1701 بات يحتاج إلى توافقات إقليمية وجوارية لضمان أمن «إسرائيل» ومنع المقاومة من العودة إلى ممارسة نشاطها كما كان عليه أمرها في السابق. وهذا الموضوع المتشعب الوجوه يتطلب قراءة تتداخل فيها مجموعة معطيات جوارية وإقليمية تتجاوز إمكانات دولة بلاد الأرز الضعيفة المشلولة. وبسبب تعقيدات مسألة المقاومة اللبنانية واختلاف تكوينها الأهلي وشروطها الميدانية عن مسألة المقاومة الفلسطينية، كما كان وضعها في لبنان قبل اندلاع الحروب الأهلية الإقليمية في العام 1975، تتطلب التقطاعات الدولية والجوارية سلسلة مراجعات ليست بالضرورة متطابقة مع تلك التي تم التوافق عليها في العام 1976.
الملفات الثلاثة يرجح أن تبقى معلقة إلى فترة حتى تتضح معالم شروط الولايات المتحدة وحدود تمركزها في المفاصل الإقليمية ومدى استعداد دول الجوار للتأقلم مع الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط الجديد». فواشنطن التي تشرف على إدارة الملفات الثلاثة تريد إخضاعها للتسوية تحت سقف ضمان أمن «إسرائيل» من جهة وتأمين انسياب النفط من جهة أخرى. مقابل هذا تبدو إدارة بوش على استعداد لتسهيل مشروعات جزئية تعطي الأقاليم دورها الخاص وتضمن لها مناطق نفوذ يمكن التحكم بها في المراحل المقبلة.
حتى الآن لاتزال العروض في طور التفاوض وهي تنتظر مجموعة متغيرات دولية وإقليمية لتستكمل الصورة معالمها قبل الانتقال من مرحلة الانتظار إلى مرحلة التكيف التي تتطلب سياسة تكييف قوى الممانعة لتتكيف مع مستجدات تعمل واشنطن على استخراجها تمهيدا لتطويعها في إطار عريض تكون هي القوة الأساس في السيطرة عليها والتحكم بآلياتها.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2042 - الثلثاء 08 أبريل 2008م الموافق 01 ربيع الثاني 1429هـ