اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس الأميركي جورج بوش بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة الحلف الأطلسي (الناتو) انتهى إلى ترسيم حدود الخلافات السياسية بين الطرفين. الجانب الروسي جدد تمسكه برفض توسيع الرقعة الجغرافية للحلف، وأكد اعتراضه المبدئي على نشر الصواريخ (الدرع) بالقرب من حدوده في أوروبا الشرقية، وأبدى تحفظاته على سياسة التقسيم والشرذمة التي تلجأ إليها الولايات المتحدة أحيانا لإضعاف الكيانات المتنوعة الديانات والأعراق في القارة الصغيرة (إعلان استقلال كوسوفو من طرف واحد مثلا).
الجانب الأميركي حرص على عدم إثارة الغضب الروسي ولجأ إلى سياسة التطمين في اعتبار أن خطوات توسيع الحلف لا تستهدف تطويق موسكو وعزلها عن أوروبا، كذلك لا تريد من نشر «الدرع» تهديد أمن روسيا القومي وإضعاف نفوذها في مجالها الجغرافي الحيوي في أوروبا الشرقية، وهي لا تؤيد التقسيمات العرقية والدينية بقصد إثارة الفتن الأهلية لتبرير وظيفة حلف عسكري انتهت مهماته الاستراتيجية مع انهيار حائط برلين وتفكك المعسكر الاشتراكي.
الخلافات بين الجانبين استمرت بعد انتهاء اللقاء الأخير الذي جرى في منتجع سياحي على ساحل البحر الأسود، ولكنها في مجموعها العام وضعت على نار خفيفة بعد التصعيد المتبادل بين العاصمتين في السنتين الأخيرتين. سياسة الطمأنة كانت «مهمة ومفيدة» لأنها أوصلت اللقاء إلى درجة حذرة من التفاؤل. وهذا الأمر أدى إلى التفاهم بين الرئيسين على ضرورة متابعة النقاش في مرحلة لاحقة. والمرحلة اللاحقة ستتحمل مسئوليتها هيئات ولجان مشتركة تديرها قوى سياسية ليس بالضرورة أن تكون متوافقة مع وجهتي نظر بوش وبوتين. فالرئيس الروسي سيغادر الكرملين في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، بينما سيغادر بوش البيت الأبيض في الأسبوع الأول من يناير/ كانون الثاني 2009. ومن الآن حتى نهاية السنة الجارية سيتولى إدارة الكرملين الرئيس الروسي الذي انتخب قبل شهر. والرئيس الجديد ديمتري مدفيديف يرجح ألا يكون في موقع مضاد لسلفه بوتين في اعتبار أن المصالح الروسية اتضحت معالم صورتها في السنوات الأخيرة بعد ضياع كاد أن يؤدي إلى غيابها عن المشهد الدولي.
عودة روسيا أصبحت من الثوابت التي بدأت واشنطن التعامل معها بجدية ولم يعد بإمكان بوش ولا الرئيس الجديد تجاهلها بعد انتهاء حقبة التفرد الأميركي بالقرار الدولي خلال فترة شهدت ما يعرف بالسلم البارد. حقبة «السلم البارد» التي تلت حقبة «الحرب الباردة» استنفدت أغراضها ولم تعد تمتلك تلك القدرات الخاصة التي تبرر وظائفها الدولية. والآن بات العالم أمام خيار آخر يتأرجح بين خطين: الأول الانتكاس مجددا إلى نوع آخر من «الحرب الباردة». والثاني التقدم باتجاه تأسيس عقد دولي يعتمد على المشاركة وتعدد عناصر الشراكة وتنوع الأقطاب.
صورة غامضة
الصورة الدولية لم تتضح معالمها في اعتبار أن السياسة الأميركية لاتزال في مزاج حقبة «السلم البارد» الذي يعزز الإحساس بالقوة والتفوق على الخصوم تأسيسا على ذاك الانتصار الذي حققته واشنطن على المعسكر الاشتراكي (حلف وارسو) مختتمة به حقبة «الحرب الباردة». المشكلة إذا في الولايات المتحدة، فهي الطرف الآيديولوجي المناكف الذي يرفض الاعتراف بالمتغيرات ويصر على عدم التعامل بموضوعية مع تلك التحولات التي عصفت بالسياسة الأميركية وأدت إلى اهتزاز موقعها الاقتصادي وظهور منافسات جدية في آسيا وأوروبا وبعض المراكز الإقليمية في أميركا اللاتينية وربما «الشرق الأوسط».
عدم اعتراف واشنطن بالمتغيرات والتحولات تأسس في البيت الأبيض على قاعدة آيديولوجية حملها معه «تيار المحافظين الجدد» إلى الحزب الجمهوري وأدار على أساسها الاستراتيجية الأميركية خلال السنوات السبع الماضية. وساهمت هذه العصابة الآيديولوجية في توريط دولة عرفت تقليديا بالبراغماتية بنزاعات ومواجهات وحروب دموية وتقويضية انتهت إلى نوع من العزلة الدولية للولايات المتحدة.
عزلة أميركا الدولية تشبه كثيرا تلك العزلة التي مر بها الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي وانتهت لاحقا إلى انهياره في التسعينات. وأدى سقوط المعسكر الاشتراكي إلى تشكيل نزعة آيديولوجية دولية مضادة لكل الأفكار التي حملها «حلف وارسو» معه إلى أوروبا الغربية. وعزز ذاك «الانتصار» الذي سجلته الولايات المتحدة سلما على الاتحاد السوفياتي تلك الأفكار الرأسمالية المتطرفة (الليبرالية المتوحشة) وأعطاها المبررات السياسية للانتقال من طور الدفاع إلى طور الهجوم الآيديولوجي على العالم في محاولة لاكتساح كل الميادين والحقول والشعوب من دون انتباه للاختلافات الحضارية والثقافية والتفاوت التاريخي ين طبقات الأمم وتنوع مصالحها ورؤاها.
الهجوم الآيديولوجي الأميركي ترافق مع تراجع الفكر الاشتراكي ونمو نزعة براغماتية في أوروبا الشرقية وروسيا الاتحادية. وانتهت المفارقة في مطلع عهدي بوش وبوتين إلى ظهور إدارة آيديولوجية في دولة براغماتية مقابل نمو إدارة براغماتية في دولة آيديولوجية. هذه المفارقة أدت إلى انكشاف قوة أميركا بعد تجارب فاشلة انتهت إلى تبعثر منظومتها الدولية وعدم قدرتها على الاستمرار في سياسة التفرد بالقرار الدولي. وفي المقابل نجح بوتين في نقل روسيا من فوضى اقتصاد السوق والاضطرابات الأمنية وتسلط عصابات (مافيات عائلية) على مصادر الثروة إلى دولة مستقرة نسبيا تتمتع بمواصفات تحتاج إلى قوة لتلعب دورها في حفظ مصالحها وحماية حدودها وضمان مستقبلها.
اللقاء الأخير بين بوتين وبوش أعاد طرح صيغ مختلفة للمشهد الدولي في مرحلة ما بعد حقبة «السلم البارد». فهل تعود الثنائية الدولية (الحرب الباردة) إلى العالم لتلعب روسيا دورها التقليدي إلى جانب الولايات المتحدة، أم أن التطور في العلاقات الدولية وضع صيغة جديدة لعصر «ما بعد الحداثة» تتجاوز التفرد «الإمبراطوري» أو الثنائية في اقتسام الأدوار والنفوذ تمهيدا لتأسيس نمط يعتمد التنوع والتعدد؟
الصورة غائمة. أميركا حتى الآن لم تدرك الطبيعة الدولية للتطور ومعنى فشلها في التفرد الإمبراطوري في اعتبار أن إدارتها الحالية لاتزال تعاني من خيبات عصابة «تيار المحافظين الجدد». وروسيا بوتين لاتزال في مرحلة إعادة إنتاج دولة تتناسب مع تلك الطبيعة الجديدة للتطور الدولي وتحتاج إلى فترة من الاستقرار حتى تستطيع الانتقال من طور رفض الهجوم الأميركي (المرحلة السلبية) إلى طور التصدي للهجوم (المرحلة الإيجابية). وبين الطرفين: الأول أميركي إمبراطوري يتراجع والثاني روسي إمبراطوري يتقدم يمكن توقع حصول حال من اللقاء الثنائي في مرحلة ما بعد بوتين وبوش. واللقاء الروسي - الأميركي في الفترة المقبلة لا يعني بالضرورة عودة «ثنائية الاستقطاب» الدولي إلى ما كانت عليه في حقبة «الحرب الباردة» ولكنها ربما تكشف عن آليات جديدة تؤسس لحقبة تتجاوز «السلم البارد» نحو سلام دولي يستقر على نظام عالمي يعتمد نمطية مغايرة تقوم على فكرة التعددية القطبية من شرق العالم إلى غربه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2041 - الإثنين 07 أبريل 2008م الموافق 30 ربيع الاول 1429هـ