زار البحرين الأسبوع الماضي الكاتب بصحيفة «الحياة» اللندنية حازم صاغية، ضيفا على جمعية «المنتدى»، وألقى محاضرة عن «أزمة السياسة في المشرق العربي اليوم» بفندق الخليج.
وفي المساء التالي، أطلّ صاغية عبر شاشة «تلفزيون المستقبل»، في برنامج «خبرة عمر»، تناول فيه تقلباته الشهيرة عبر محطات الحياة. فالرجل الذي بدأ بقرض الشعر فمدح عبدالناصر وحزب البعث في محطته «القومية»، آمن لاحقا بالماركسية اللينينية، ولما جاءت الثورة الإسلامية في إيران تعلّق بها، ثم انقلب عليها، وأصبح ليبراليّا.
السمة البارزة في سيرة حياة صاغية، هي هذه التنقلات الانقلابية الحادة. لا أحد يعترض على التغيّر وتصحيح المواقف، وكثيرا ما يكون ذلك شجاعة يفتقر إليها الكثيرون. لكن أحد مظاهر «أزمة السياسة في المشرق العربي اليوم» هو اعتقاد المثقف العربي بأنه يمتلك الحقيقة في جيبه، فـ «الحق» يدور معه دائما حيثما دار، وفي كل انتقالة سياسية أو «شقلبة على الذات»، لديه خزانةٌ لا تنضب من المصطلحات التي تستولدها «الديانة الحداثوية» على الدوام.
في المقابلة التلفزيونية، كان لافتا كلامه عن فترة عمله في صحيفة «السفير»، حيث كشف عن عدم قناعته بالفترة بين 1980 حتى العام 1988، وهي فترةٌ حاسمةٌ في تاريخ المنطقة، (الحرب العراقية الإيرانية)، وانبعاث حركة المقاومة في لبنان الخاضع للاحتلال الاسرائيلي. وهي فترةٌ صعبةٌ يحقُّ لمن بقي يعمل داخل لبنان أن يفخر بها؛ لأنها أسّست للانتصار اللاحق في مايو/أيار 2000. إلا أنَّ القارئ يُفاجأ بما كشفه صاغية عن عدم قناعةٍ بتلك الفترة من عمله حتى أوان خروجه إلى جنّة لندن.
لعل أهم ما يؤخذ على صاغية أنه يتكلّم ويكتب بدرجةٍ عاليةٍ من «اليقين» الذي لا يقبل الرد، وبلغةٍ حدّيةٍ وقطعية، وهذه أحد أدواء المثقف العربي. فهو كان على حقٍ يوم اندفع لتأييد ثورة الخميني ووقف في معسكرها، وهو على حقٍ، وبالحدة والقطعية نفسها، بعد انقلابه على «الخمينية» وانتقاله إلى المعسكر الغربي الزاحف على الشرق بدباباته. فأنت أمام موقف فكري متلبس باليقين والدكتاتورية، وإن تغطى برداء ليبرالي شفيف. وأمام هذه الظاهرة من الصعب أن تثق بهذا الفكر، أو تطمئن لهذا التيار المتقلب الأهواء والأنواء كالبحر الهائج.
لا يمكن أن نغفل الجانب الشخصي أيضا... فالكاتب بشرٌ مهما ازدحم عقله بالنظريات والفلسفات، فتلمس مدى ما تركه من حزن رحيلُ زوجته الكاتبة والناشرة مي غصوب، وفي اليوم التالي رحيل صديق عمره جوزيف سماحة، الذي لازمه أربعين عاما حتى افترقت بهما السبل، فالتحق سماحة بـ «الأخبار» قريبا من «حزب الله» ومعسكر المقاومة بينما حطّ صاغية رحاله في معسكر 14 آذار على رغم اعترافه بأنه مجرد «تجمّع للطوائف»!
وأنت تتابع محطات «تجربة عمر»، تجد خلاصة أزمنة الهزائم والانكسارات العربية. رجلا محبطا يائسا من كل شيء، لا يملك بشارة ولا يحمل أملا، والحل الوحيد للخلاص هو الارتماء في حضن الوحش الليبرالي الزاحف. وطوال الوقت ظل يتردّد في صدري وصدور الكثير من المشاهدين، سؤالٌ اختتم به المذيع اللقاء: هل هذا هو التغير الأخير في مواقفك... أم هناك تغيراتٌ مقبلةٌ في الطريق؟
أخيرا... هل يمكن أن تثق الشعوب العربية بهؤلاء اليائسين المحبطين الذين لا يملكون حلا غير ثقافة الذوبان في الغزاة؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2040 - الأحد 06 أبريل 2008م الموافق 29 ربيع الاول 1429هـ