خمس علامات ظهرت في الميدان العراقي بعد حملة «صولة الفرسان» الفاشلة في البصرة ومحافظات الجنوب. الأولى أكّدت ضعف جاهزية الجيش العراقي «الحديث» وقلّة خبرته وعدم استعداده النفسي لخوض مواجهات داخلية أو حدودية.
الثانية عززت من قوّة تيار الزعيم الشاب مقتدى الصدر وأكّدت أن ميليشياته التي تعاني من الفوضى والاختراق وضعف التنظيم وعدم وضوح الرؤية السياسية أنها تتمتع بشعبية توازن قوّة «الدولة» وجماعاتها الحزبية وأتباعها في تلك المناطق.
الثالثة أظهرت مدى التأثير الإيراني في مناطق الحدود وقدرة طهران على التواصل مع اتجاهات متخالفة على الأرض ولكنها متوافقة ضمنا على الاعتراف بدور إيراني خاص في إدارة الصراع.
الرابعة رسمت معارك البصرة خطوط تماس بين مراكز القوى الشيعية وأظهرت أنّ الأرجحية العددية لم تحسم بعد وأنها مقبلة على تعديلات ستظهر صورتها السياسية في انتخابات المحافظات. الخامسة كرّست المعارك مجموعة مواقع يحتمل أنْ تظهر قريبا على الشاشة السياسية وخصوصا بعد دعوة الصدر أنصاره إلى القيام بمظاهرة مليونية في بغداد ضد الاحتلال الأميركي. فالتظاهرة تعتبر خطوة لابدّ منها للاستفتاء واختبار شعبية تيار متردد في خياراته الوطنية.
كلّ هذه العلامات تعتبر مجموعة نقاط اختبارية للتعرف على توزع مراكز القوى وثقلها ودورها في رسم خريطة العراق في فترة حاسمة من تاريخه. وهذا ما اكتشفته حكومة نوري المالكي المتحالفة مع أميركا والمنفتحة على إيران في وقت واحد. فالحكومة قررت خوض الانتخابات تحت شعارات جديدة وشروط مختلفة منها حل الميليشيات قبل الإعلان عن المشاركة بها. وهذا النوع من الشروط يريد أنْ يؤكّد أنّ «الدولة» هي المرجع الأمني الوحيد وهي صاحبة القرار في تحديد هوية القوى الحزبية ومواصفاتها وبرامجها.
شروط المالكي السياسية لتحديد الجهات الحزبية الصالحة لتمثيل الناس في المعارك الانتخابية جاءت للتغطية على فشله في خوض «صولة فرسان» كانت نتائجها مخالفة للتوقعات. فالمعركة أوضحت أنّ «جيش الدولة» أضعف من «جيوش» الطوائف والمناطق والمذاهب وأن الرهان الأميركي على تلك التدريبات لم يكن في محله بعد أنْ أثبتت الوقائع أنّ الاحتلال غير قادر على تعزيز سلطته من خلال الاعتماد على قوّات محلية وغير مستوردة من الخارج.
أدى فشل حملة «صولة الفرسان» في تحقيق أغراضها إلى ثلاث نتائج مباشرة. الأولى إعلان بريطانيا عن تأجيل قرار سحب الجزء الكبير من قوّاتها العاملة في البصرة الذي كان مقررا تنفيذه في يونيو/ حزيران المقبل. الثانية إعلان القيادة العسكرية الأميركية عن احتمال إعادة النظر بقرار تخفيف القوّات وعدم المباشرة في سحبها وفق جدول زمني طويل المدى بدءا من يوليو/ تموز المقبل.
الثالثة مسارعة وزارة الخارجية الأميركية إلى تجديد العقد مع شركة «بلاك ووتر» الأمنية مدّة سنة إضافية وقبل الانتهاء من التحقيق الفيدرالي الذي فتح بإشراف مخابرات «اف. بي. أي» بعد فضيحة قتل المدنيين في بغداد.
دولة فاشلة
النتائج الثلاث ليست مفصولة عن العلامات الخمس وجاءت في مجموعها تصب في دائرة واحدة وهي أنّ «دولة» العراق فاشلة وهي لاتزال بائسة وغير قادرة على تحمّل مسئولياتها مباشرة ومن دون دعم قوي من قوات الاحتلال. فالفشل في ضبط وضع أمني في مدينة واحدة في الجنوب يعني أنّ «الدولة» المصطنعة لم تأخذ بعد شرعيتها الأهلية ولا تستطيع الاستغناء عن الاحتلال في الترتيب والحماية والإشراف.
ضعف «الدولة» الذي اكتشفه الاحتلال يشير إلى وجود قرار أميركي بتمديد الإقامة إلى فترة طويلة تتجاوز عهد الرئيس جورج بوش. وهذا الضعف البنيوي والهيكلي والأهلي أعطى إشارة تنبيه سياسية لقوات الاحتلال ويحتمل أنْ يضغط عليها لمراجعة كلّ خطط الانسحاب وإعادة الانتشار التي أعلنت عنها سابقا ضمن حسابات انتخابية في الولايات المتحدة. والمراجعة التي بدأت بتأخير سحب بريطانيا لقواتها واحتمال تجميد خطط تجميع القوّات الأميركية في مختلف المناطق انتهت أمس الأول بإعلان الخارجية بتجديد عقد الخدمة الأمنية مع شركة «بلاك ووتر» لمدة سنة اضافية. الإعلان شكل ضربة معنوية لحكومة المالكي التي هددت سابقا الشركة بالطرد من العراق بعد أقدام عناصرها على قتل 17 مواطنا في سبتمبر/ أيلول الماضي. قرار التمديد وهو السادس الذي تبرمه الخارجية الأميركية منذ العام 2003 جاء قبل انتهاء مدة العقد الخامس في مايو/ أيار المقبل واستبق صدور تقرير الشرطة بشأن الحادث الذي ارتكبته الشركة.
تجديد العقد يعتبر ضربة استباقية لكلّ الاحتمالات التي يمكن أن يتوصّل إليها التحقيق، في اعتبار أنّ إدارة الاحتلال قررت أن لا غنى عن الشركة بوصفها تلعب دور المهمات القذرة وتنشط في عمليات تهريب الأسلحة وتدريب ميليشيات وحماية شخصيات وتقوم بأعمال تخريب وتفجير في مناطق مختارة. فالشركة ليست قوّة عسكرية (ألف مجنّد برئاسة ضابط سابق في المارينز) بقدر ما هي هيئة سرية تقوم بمهمات أمنية تحتاج إليها قوّات الاحتلال لإثارة الفوضى وجرجرة البلاد إلى مواجهات أهلية. وخطورة هذا النوع من الهيئات الخاصة أنه يتحرك سرا وفوق القانون ولا يخضع للمحاسبة العسكرية الأميركية أو القضاء العراقي. فالشركة هذه متهمة بارتكاب 200 مخالفة أمنية في أقل من سنتين من دون مراقبة أو محاسبة وتعرّضت سابقا لأربعة تحقيقات من دون طائل.
كلّ هذه «الامتيازات» تعطي ميزة خاصة لهذه الشركات المتعددة الأسماء (غلوبال، يونيتي ريسورسزغروب، وبلاك ووتر) وتساعدها على القيام بوظائف معيّنة لا يستطيع الجيش الأميركي المجاهرة بها. وبحكم لعب الشركات الأمنية الخاصة دور «الوكيل» لقوات الاحتلال تتمسك الإدارة الأميركية بمهماتها نظرا لحاجتها لذاك الدور الذي تقوم به في تأمين الحماية حتى لو بلغت النفقات المالية (الرواتب والتعويضات) الأضعاف المضاعفة عن تلك التي يحصل عليها ضباط وجنود المارينز.
تجديد عقد لمدة سنة مع شركة أمنية متهمّة بالقتل ومخالفة القانون أعطى إشارة سياسية واضحة عن وجود قرار أميركي بعدم الانسحاب أو إعادة الانتشار في بلاد الرافدين قبل مايو/آيار 2009. فالتجديد للشركات الخاصة لا يُمكن فصله عن تلك النوايا السياسية التي ترجح استمرار الاحتلال إلى أطول فترة ممكنة بذريعة أنّ «الدولة» البديلة فاشلة ولم تستكمل عدتها وعتادها للدفاع عن مصالحها ومواقعها ودورها في حال سحبت القوّات الأميركية من العراق. والدولة الفاشلة في الأعراف الدولية تعني أنها بحاجة إلى مساعدة خارجية للقيام بمهماتها السيادية.
امتحان «صولة الفرسان» أسفر عن نتائج ميدانية سلبية وعلامات مفارقة في التحالفات والأحجام والأوزان وكشف عن أوراق سرية لاتزال الإدارة الأميركية قادرة على التلاعب بها وإظهارها على الشاشة السياسية وقت الحاجة. وتمديد العقد مع «بلاك ووتر» من دون انتظار نتائج التحقيق وبموازنة سنوية تقدر بأكثر من مليار و200 مليون دولار يعتبر إشارة سياسية تؤكد عزم الإدارة الأميركية على تمديد فترة الاحتلال سنة إضافية تنتهي بعد خروج الرئيس بوش من البيت الأبيض.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2040 - الأحد 06 أبريل 2008م الموافق 29 ربيع الاول 1429هـ