المفاجأة السياسية التي أطلقها قائد الجيش اللبناني ميشال سيلمان يرجّح ألا تمر من دون تداعيات. والتصريحات التي نشرتها صحيفة «السفير» نقلا عنه في مناسبة الكلام عن التمديد لقيادته في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل وجّهت رسالة سياسية قوية للأطراف المحلية والإقليمية والدولية بشأن خطورة «الفراغ الهادئ» الناجم عن تعطيل مؤسسة رئاسة الجمهورية.
الجنرال سليمان المرشح التوافقي المدعوم عربيا أبدى ضجره من الانتظار وتحكّم عقلية المماطلة و التسويف وربما «المتاجرة» بمصير بلد يُعاني من أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية. فالجنرال أبدى انزعاجه من التواء السياسة في لبنان وعدم قدرة الأطراف على التوافق على مسألة دستورية خطيرة تمس سيادة الدولة. والجنرال أيضا أبدى تحفظه من سلسلة شروط لا تتوقف ومجموعة حواجز لانهاية لها وضعت كلّها على درب استحقاق دستوري يتطلب الانتباه حتى لا تنزلق الطوائف والمذاهب في مشروع فتنة أهلية.
كلام الجنرال أربك مختلف القوى المحلية التي تتجاذب الساحة اللبنانية وتتقاسمها مناطقيا تحت مظلات جوارية وإقليمية. فالمترشح التوافقي طرح فكرة الانسحاب من سباق التنافس إذا كانت مثل هذه الخطوة تساعد على إنقاذ البلد من الانهيار. وهو أوضح أيضا أنه غير قادر على البقاء في منصبه العسكري إلى الأبد في انتظار المصالحة اللبنانية أو التصالح العربي - العربي. لذلك لمح للمرة الأولى أنه سيُغادر موقعه العسكري في 21 أغسطس/ آب المقبل وقبل ثلاثة أشهر من نهاية ولايته المرتبطة بنظام التقاعد. فهو لا يريد التمديد ولا يُريد الانتظار إلى موعد يتخطى التزاماته الدستورية والوطنية.
كلام الجنرال جاء ردا على نقطتين: الأولى تتعلّق بالحكومة وما نقل عنها أنها تفكّر بالتمديد لفترة قيادته للجيش حتى لا تقع المؤسسة العسكرية في مشكلة فراغ دستوري على غرار رئاسة الجمهورية. الثانية تتصل بتلك التصريحات المنسوبة لمجموعات سياسية محسوبة على سورية أبدت فيها تحفظات على المترشح الرئاسي وأطلقت تلك الشكوك التي طرحت علامات استفهام بشأن قدرته على تمثيل كلّ القوى اللبنانية من دون انحياز لهذا الجانب أو ذاك.
ردة فعل الجنرال على احتمال التمديد والبدء بالتشكيك في عدالته طرحت أسئلة تدور حول مصير الجمهورية ومستقبل الكيان اللبناني وإمكانات استمرار «الفراغ الهادئ» إلى أجل غير محدود زمنيا.
ردة الفعل ولّدت شرارات سياسية يرجّح أن تؤتي تلك النتائج المتوقع حصولها في القريب. والقريب لا يتجاوز موعد 22 أبريل/ نيسان الجاري. فإذا أرادت القوى السياسية إقفال ملف الرئاسة فإنها لاشك ستتوجّه إلى قاعة المجلس النيابي وتنتخب سليمان لهذا المنصب. وإذا أرادت القوى المعنية الاستمرار في سياسة المناكفة فإنها ستلجأ إلى تأجيل الجلسة إلى موعد آخر... وآخر إلى أنْ ينهار البلد أو تأتي من «الخارج» تلك الإشارات الخضراء أو الصفراء أو الحمراء المطلوبة لإعادة ترسيم صورة بلاد الأرز في الفترة المقبلة.
الأزمة الدستورية التي حاول الجنرال في تصريحاته الأخيرة إعطاء صورة عن تعقيداتها ليست شخصية وإنما هي في جوهرها السياسي تتعدّى الكيان اللبناني. فالمشكلة الدستورية التي بدأت بعدم قدرة الكتل النيابية على تأمين «نصاب الثلثين» لانتخاب رئيس وفاقي فتحت الباب أمام أزمات إقليمية وجوارية ودولية أخذت تعصف بالمؤسسات السيادية. وبسبب ضعف الكتل النيابية وعدم التزامها باللعبة الديمقراطية شكّلت أزمة «نصاب الثلثين» تلك الرافعة الدستورية التي حملت معها مختلف الأزمات وعلقتها على «شمّاعة» دولية وإقليمية وجوارية عززت من إمكانات تطوّر منسوب التدخل في الشئون المحلية. أزمة «نصاب الثلثين» تتجاوز بدورها مسألة الدستور؛ لأنها في جوهرها تشكّل ذريعة لتعطيل الحل ومنع القوى من الذهاب باتجاه محدد. وحين يتعطل على القوى السياسية اختيار الاتجاه تصبح كلّ الاتجاهات مفتوحة. وهذا يعني في لغة القانون ذهاب البلد باتجاه الضياع الدستوري والتخبّط السياسي والفوضى العامّة.
مشكلة جنرال
مشكلة الجنرال أكبر من تلك الدائرة التي رسم حدودها في إطار شخصي. فهي مشكلة ممتدة إقليميا وجواريا ودوليا. والامتداد خارج حدود الكيان لا يعني أنّ جذور الأزمة ليس لها تلك القواعد والأنصار في بلاد الأرز. الجنرال مثلا استغرب تضخم الشروط واتساعها حتى يتم التوافق عليه بصفته ذاك الشخص الوفاقي الذي قاتل الإرهاب في معارك مخيّم «نهر البارد» في الشمال وحارب إلى جانب المقاومة في التصدّي للعدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006. فالجنرال يرى أنّ هذا السجل العسكري النزيه والمشرّف يكفل له تحمّل مسئولية الرئيس الأوّل لكونه يمثل ذاك الضابط الذي يحترف الوطنية ويضبط مصالح القوى مجتمعة من دون انحياز لهذا الجانب أو ذاك. هذه الحسنات التي ذكرها الجنرال ربما تكون السبب وراء تعطيل فرصة انتخابه رئيسا لبلاد الأرز. فالكلام عن مكافحة «الإرهاب» يرضي فئة ويغضب فئة. والكلام عن مقاومة عدوان الصيف (الأميركي - الإسرائيلي) يرضي فئة ويغضب فئة ويربك واشنطن وتل أبيب.
مشكلة الجنرال أنه يعيش في عالم يقرأ الصورة من زاوية سياسية مختلفة. فحين يؤكّد التزامه بالمقاومة واستعداده لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وتطويرعقيدة الممانعة في مؤسسة الجيش فمعنى ذلك أنه وضع نفسه في موقع لا يلقى ذاك الارتياح في مراكز القرار الأميركية والإسرائيلية. وحين يشير مرارا إلى أنه يُريد أفضل العلاقات مع سورية والدول العربية على اختلافها وأنه يضع مسألة المصالحة الوطنية على رأس أولويات برنامجه الرئاسي فمعنى ذلك أنه اتخذ قرار احتواء أزمة لبنانية مختلفة الوجوه والجوانب في وقت تبدو الرياح الدولية والإقليمية والجوارية ذاهبة باتجاه الدفع نحو مزيد من التفكيك والتقويض. وحين يؤكّد الجنرال أنه على مسافة واحدة من «8 و14 أذار» وأنه يحرص على السلم الأهلي وحق الشوارع اللبنانية في التعبير عن مشاعرها من دون تدخلات قمعية تعطل إرادة الحرية فمعنى ذلك أنه قرر السير في حقل ألغام وصواعق تفجير دولية وجوارية وإقليمية.
مشكلة الجنرال ليست شخصية والصورة التي رسمها صحيحة لكنها لا تعطي فكرة عن أزمة تتجاوز الحدود اللبنانية. فالجانب الشخصي ليس هو السبب في عدم التعجيل في اختياره وإنما الجانب المسلكي المتصل بسيرته الذاتية وكلامه العام عن مواقفه السابقة وإشاراته السريعة لمشروعه المقبل. المشكلة في السياسة المحلية وامتداداتها الجوارية والإقليمية والدولية. وهذه المشكلة المركبة من مجموعة عناصر والمفتوحة على احتمالات لم تحسم اتجاهاتها حتى الآنَ، وهي تشكل ذاك العائق الذي يمنع التواصل الداخلي ويؤخر ذهاب القوى النيابية الى قاعة البرلمان وانتخاب رئيس للجمهورية.
المفاجأة التي أطلقها قائد الجيش تبقى مهمّة حتى لو جاءت في لحظة تبدو فيها المنطقة مقبلة على متغيّرات غير واضحة في معالمها النهائية ولكنها تكشف عن تقاطعات دولية وإقليمية وجوارية لا يعرف من الآنَ كيف ستنعكس صورتها السياسية على ميدان لبنان ومحيطه المشرقي. فالتقاطع لا يعني دائما التطابق وإنما أحيانا يشير إلى توافق ضمني على مسألة محددة تمثل مصلحة مشتركه لقوى متخالفة في تصوراتها الإقليمية والجوارية. وهذا التقاطع في المصالح الموضعية يُرسل إشارات باتجاهات مختلفة منها مثلا التوافق على تمديد الأزمة الرئاسية في لبنان بانتظار اتضاح معالم خريطة «الشرق الأوسط الجديد».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2038 - الجمعة 04 أبريل 2008م الموافق 27 ربيع الاول 1429هـ