يقوم مشروع التنوير الغربي على نزعة كونية مجردة تؤمن بوحدة الجنس البشري، وتنظر إلى الإنسان بصفته كائنا مجردا من كل الانتماءات والهويات. إلا أن اللافت أن معظم منظري التعددية الأوائل كانت لهم مواقف نقدية ضد هذا النوع من التنوير.
ويعود الفضل إلى أشعيا برلين في اختراع مصطلح «ضد التنوير» The Counter-Enlightenment، وهو مصطلح يشير إلى حركة ظهرت في القرنين 18 و19، وقامت على رفض مبادئ التنوير الفرنسي من عقلانية وتقدم وكونية جعلت البشر في مصافّ الحيوانات والنباتات والمعادن مذيبة بهذه الكونية ذلك التنوع الخلاّق والثريّ في تاريخ البشر وحياتهم. ويذهب برلين إلى القول بأن التنوير القائم على فكرة أن «الطبيعة البشرية واحدة في كل الأزمان والأماكن، وإن التنوعات المحلية والتاريخية لم تكن بذات قيمة إذا ما قورنت بالجوهر المركزي الثابت» في هذه الطبيعة، إنما ينتهي إلى «تعريف الوجود البشري بصفته صنفا أو نوعا مثل الحيوانات والنباتات والمعادن».
ينطوي التنوير، إذن، على نزعة مضادة للتنوع ومناصرة للتجانس والتماثل الثقافيين. ويعود هذا النوع من التشكيك في فكر التنوير إلى المفكر الألماني يوهان هردر الذي ناصر، في أواخر القرن الثامن عشر، تنوع الثقافات باسم «العبقرية القومية» لكل شعب، وذلك «ضد كونية الأنوار الموحّدة والتي كان يعتبرها مُفقرة» للثروة الإنسانية. وقبل حديث أشعيا برلين عن الموقف المضاد للتنوير، كان هوراس كولين قد لاحظ، من منطلق يهوديته ونزعته الصهيونية هذه المرة، أن التنوير أخفق لدى اليهود لأنه قدّم لهم الحرية كأفراد مجرّدين، وتوقّف عن الاعتراف بهم بصفتهم الواقعية كيهود. وهو يرى أن الصهيونية صحّحت خطأ التنوير من خلال الاعتراف بحرية اليهود الكاملة كأفراد، وفي الوقت ذاته كيهود وليس كوجود إنساني مجرد. وعداء كولين لسياسة بوتقة الصهر الذي عبّر عنه في مقالته حولDemocracy Versus the Melting-Pot (1915)، قاده إلى الحديث عن التنوير بوصفه «نوعا من بوتقة الصهر، وأنه قائم على مفهوم مغلوط حول المساواة وأنها ينبغي أن تعني التطابق والتشابه في الهوية. لقد أخفق التنوير في إدراك فكرة أنه بالإمكان أن توجد المساواة القائمة على الاختلاف».
والحق أن كل النقاش في التعددية الثقافية يدور حول هذه المعضلة التي يصوغها كولين في سياق نقده لكونية التنوير التجريدية، أي معضلة «المساواة القائمة على الاختلاف لا على التماثل». وتمثل هذه المساواة المطلب الجوهري في التعددية الثقافية. صحيح أن جميعنا بشر وينبغي أن نتمتع بحقوق متساوية بصفتنا بشرا، إلا أن الصحيح كذلك أن «الناس في العالم الحقيقي للتاريخ البشري ليسوا نماذج مثالية للنوع البشري، بل هم مُمَفصِلون لأساليب الحياة المحددة التي تعكس ظروفهم وتعبّر عن هويتهم المميزة وتمنحها لهم في آن واحد». وما يأخذه دعاة التعددية على كونية التنوير أنها تنظر إلى الناس على أنهم مجرد أمثلة للنوع البشري، في حين أن الناس بشر، وشيء إضافي آخر في الوقت ذاته، فهم ينتمون إلى الجنس البشري، وفي الوقت ذاته هم على أرض الواقع: نساء ورجال، مؤمنون وملحدون، مسلمون ويهود ومسيحيون وهندوس وآخرون، عرب وفرس وهنود وأكراد وآخرون، بحرينيون وسعوديون وفرنسيون ومصريون وصينيون وآخرون. وهكذا فالإنسان كمقولة مجردة هو محض اختلاق ذهني، أما ما هو حقيقي، فعلا، فهو أن الناس يوجدون وهم على صلة بارتباطات وانتماءات متنوعة عرقية ودينية ومناطقية ومهنية وجنسية وعمرية.
تختلف البشرية المجردة أو التجريدية عن هذا النوع من البشرية المنغرسة في أرض الواقع، والقائمة على التنوع والاختلاف في الانتماءات والارتباطات. وإذا كانت البشرية المجردة تفترض المساواة القائمة على التماثل، فإن الأخرى تفترض مساواة قائمة على الاختلاف، فكما أن بشريتنا حقيقة بدهية لا تقبل المحو ولا الاختزال، فإن التنوع والاختلاف، كذلك، حقيقة بدهية لا تقبل الاختزال. إلا أن السؤال الملح الآن هو: كيف ينعكس هذا الجدل النظري على السياسات اليومية؟ وكيف يجري التعبير عنه بلغة القانون والحقوق والتشريع؟
تقوم الليبرالية الكلاسيكية على فكرة الحقوق المتساوية لكل الكائنات البشرية، و»مطلب المساواة» هو نتاج عصر التنوير، وتحديدا هو «نابع من الكونية» أي من الإقرار بكونية الإنسان، وأن جميع البشر ينتمون إلى النوع نفسه، ولهذا وجب أن يتمتع جميعهم بحقوق متساوية دونما اعتبار لاختلافاتهم القائمة على أساس الجنس أو العرق أو الطبقة أو الدين. ويتمثل مطلب المساواة النابع من الكونية في ما يعرف بالحقوق الطبيعية أولا، وفي المساواة أمام القانون ثانيا.
أما الحق الأول فهو حق نتحصل عليها بحكم طبيعتنا البشرية المشتركة، ولهذا يستحقه كل فرد ينتمي إلى الجنس البشري. ويتمثّل هذا الحق في مجموعة مطالب أساسية تحفظ حياة الإنسان وتجنبه الأذى والألم، وذلك مثل الحق في الحياة والكرامة البشرية التي تعني، من بين ما تعنيه، حرمة الجسد البشري ضد البتر والتعذيب والتشويه والمُثلة. وإذا كانت هذه الحقوق موجودة في طبيعتنا بصفتنا بشرا، فإنها تكون، بالضرورة، سابقة في الوجود على الدولة والقانون، بل إن الناس يؤسسون الدولة ويضعون القانون من أجل حماية هذه الحقوق. وهي حقوق عامة نكتسبها بصفتنا بشرا؛ ولهذا ينبغي أن يستحقها كل من ينتمي إلى الجنس البشري، فهي ليست خاصة بالعقلاء دون المجانين، ولا بالراشدين دون القاصرين، ولا بالرجال دون النساء، ولا بالأغنياء دون الفقراء، ولا بالحكام دون المحكومين، ولا بالمؤمنين دون الملحدين، ولا بأتباع دين معين دون الآخرين، ولا بالغربيين دون الشرقيين، فكل هؤلاء ينبغي أن يتمتعوا بحقوق طبيعية متساوية في الحياة وفي الكرامة البشرية، فلا يجوز قتلهم ولا إيذاؤهم ولا تعذيبهم تحت أي مبرر.
إلا أن الحاصل أن هذه الحقوق الطبيعية أو ما جرى الاصطلاح على تسميتها بـ «حقوق الإنسان» هي أقرب إلى «المبادئ الأخلاقية» التي تفتقر إلى قوة إلزام إكراهية؛ والسبب أن وجودها مرتبط بوجود دولة عادلة، حيث «لا شيء يضمن أن نحظى بها في غياب دولة ذات جهاز عدلي سليم». ومع هذا، فإنه لا شيء يمنع الدولة من أن تتبنى هذه الحقوق و»أن تدمجها في دستورها. وعندئذٍ تكون هذه الحقوق فضلا عن الاعتراف العالمي الذي تحظى به قد اكتسبت قوة القانون داخل البلاد وخير مثال على ذلك وثيقة الإعلان عن الحقوق في الولايات المتحدة الأميركية منذ 1776 أو وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا سنة 1789»، وكما هو الحال في كثير من دساتير الدول الديموقراطية أو أعرافها وتقاليدها الدستورية.
وعلى رغم أن الحقوق الطبيعية موجودة قبل الدولة، إلا أنها تحتاج إلى الدولة العادلة لتنفيذها وحمايتها. وهذه أولى المفارقات التي تنطوي عليها الحقوق الطبيعية. ومع هذا، فإن هذه المفارقة تؤسس للنوع الثاني من حق المساواة النابع من الكونية. ويتمثل هذا النوع في المساواة أمام القانون، وهذا حق نكتسبه بصفتنا مواطنين في دولة من الدول. والمواطنة عضوية مصطنعة - بمعنى أنها ليست عضوية طبيعية - ترتكز على عضويتنا الأولى في الجنس البشري، وذلك لأنه لا توجد دولة تقبل في عضويتها مواطنين من الحيوانات أو النباتات أو المعادن! هذه حقيقة بدهية، إلا أن الحاصل أن عضوية المواطنة لا تتطابق مع عضوية الجنس البشري بالضرورة، وهذا هو السبب في كون مواطن بلد ما يحظى بحقه الطبيعي في الحياة والكرامة البشرية لا لسبب سوى أنه مواطن في بلد تحرم عقوبة الإعدام والتعذيب، في حين يحرم مواطني بلد آخر من هذه الحقوق لأن بلدانهم تمارس عقوبة الإعدام والتعذيب. كما أن عدم التطابق بين العضويتين: المواطنة والإنسانية، هو الذي يجعلني أحظى بحقوق معينة في بلد ما بحكم أني مواطن فيه، في حين أحرم من هذه الحقوق في بلد آخر بحكم أني أجنبي عنه، ولن تشفع لي عندئذٍ عضويتي المؤكدة في الجنس البشري كما لم تشفع هذه العضوية لأولئك الذين تمارس عليهم عقوبة الإعدام والتعذيب في بلدانهم. والمفارقة أن المرء قد يحرم من حقوقه الطبيعية كحقه في الحياة مثلا حتى لو كانت بلده تحرم عقوبة الإعدام، ولنفترض أن مواطنا كنديا تحرم بلاده عقوبة الإعدام، إلا أنه اضطر أو رغب في السفر عبر الحدود الملاصقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تمارس عقوبة الإعدام، وصادف أن ارتكب هذا الكندي جريمة القتل وأدين من قبل القضاء الأمريكي بذلك وصدر الحكم بإعدامه. عندئذ سيحرم هذا الكندي من حقه الطبيعي في الحياة ولا تشفع له، في معظم الأحوال، عضويته الإنسانية ولا حتى الكندية. حصل هذا في أزمة الممرضات البلغاريات المتهمات بإصابة مئات الأطفال بالفيروس المسبب لمرض الإيدز في ليبيا، حيث حكمت المحكمة عليهن بالإعدام في حين أن بلغاريا، وطنهن الأصلي، يحرم عقوبة الإعدام. هذه إذن مفارقة نابعة من عدم التطابق بين حقوق المواطنة والحقوق الطبيعية (حقوق الإنسان)، وهي مفارقة عامة موجودة في الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية.
هذه مفارقة عصيّة على الحل؛ لأن حلها يكمن في تطابق قوانين الدول مع الحقوق الطبيعية ومواثيق حقوق الإنسان الدولية. وهذا مطلب ملح بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان حول العالم، إلا أنه سيكون علينا الانتظار طويلا حتى تأخذ جميع الدول بهذا المطلب. ومع هذا فإن مطلب المساواة أمام القانون قابل للتنفيذ من دون أن تحلّ هذه المعضلة؛ لأن المقصود بالمساواة أمام القانون هو أن يتمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية، وبمعاملة قانونية وقضائية متساوية، وألا تمارس الدولة التمييز بين مواطنيها في الحقوق والخدمات العامة التي توفّرها. وقد تكون حقوق المواطنة غير طبيعية أو مضادة للحقوق الطبيعية، ومع هذا فإن مطلب المساواة أمام القانون يشترط أن يتساوى الجميع في تحصيل هذه الحقوق دون تمييز. فعلى سبيل المثال ليس من الحقوق الطبيعية أن تقوم الدولة بتوفير وسائل نقل مريحة للمواطنين تنقلهم من مساكنهم إلى أماكن عملهم أو دراستهم، إلا أن هذا الحق إذا جرى إقراره من قبل الدولة فإن تعميمه على الجميع يصبح واجبا، فلا يجوز أن يتمتع به أبناء مدينة المحرق ويحرم منه أبناء المنامة مثلا. والأمر كذلك إذا سنّت الدولة عقوبة الإعدام بحق من أدين بالقتل العمد، فعلى الرغم من تعارض هذه العقوبة مع الحقوق الطبيعية (حق الحياة) فإن مطلب المساواة أمام القانون يستلزم أن يتلقى الجميع معاملة متساوية بهذا الشأن، فإذا نُفّذت عقوبة الإعدام بحق مواطن فقير أدين بالقتل العمد، فإنها ينبغي أن تنفّذ كذلك بحق المواطن الغني إذا تطابقت ملابسات الجريمة، وأدين بالإدانة ذاتها، وكذا الشأن إذا كان القاتل امرأة أو رجلا، مسلما أو يهوديا
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2293 - الإثنين 15 ديسمبر 2008م الموافق 16 ذي الحجة 1429هـ