العدد 2037 - الخميس 03 أبريل 2008م الموافق 26 ربيع الاول 1429هـ

الديمقراطية... وصدمة الجزائر 1991

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

استقر الخلاف بين جماعات حركة الإخوان ومختلف التنظيمات الجهادية على الانقسام النظري بشأن معظم الآراء المتعلقة بالحكم والحكومة والحكام. وكان لابد من هزة سياسية تحدث صدمة كبرى لتعيد من جديد خلط الأوراق وفرزها وإعادة تقويم المواقف استنادا إلى تفاعلات تجربة ملموسة وعينية.

ومثل أي هزة أحدثت صدمة الجزائر (الانقلاب على نتائج الانتخابات في العام 1991) ردود فعل متباينة انقسمت بدورها إلى محاورَ ثلاثة: الأول، قرأ التجربة وحاول استخلاص دروسها باتجاه ما يمكن تسميته تطوير «الوعي الديمقراطي» وإنضاج أفكاره وقواعده وأصوله الشرعية. الثاني، استفزه انقلاب السلطة على نتائج الانتخابات فتراجع عن مواقفه الإيجابية من الديمقراطية ودورها وعاء سياسيا أو آلية تنظيم الخلافات وتعكس سلما موازين القوى في المجتمع. الثالث، تمسك بموقفه الرافض أصلا فكرة الديمقراطية واللعبة البرلمانية واتخذ الانقلاب الجزائري ضد الإسلاميين ذريعة إضافية ليؤكد وجهة نظره السابقة، ودمج موقفه السلبي من الديمقراطية بمزيد من السخرية والشماتة من حركة الإخوان و «جبهة الإنقاذ» الجزائرية الإسلامية ومراهناتهما المخفقة على كذبة «الحرية» و «التعددية» و «الائتلاف»، ثم كرر مواقفه الثابتة من موضوعة أن الشرعية تؤخذ بالسيف لا بالأكثرية العددية.

لا شك في أن الخلافات التي استجدت وتطايرت شظاياها في ضوء الصدمة الجزائرية ليست منعزلة عن اختلافات السابقة، بل هي أصلا على صلة مباشرة بها، وتعتبر مجرد امتداد لحالات مشابهة جرت سابقا في مصر والسودان وغيرهما من الدول العربية والإسلامية. وجاءت الصدمة الجزائرية لتصب المزيد من زيت الخلافات على نار المواجهات الايديولوجية المشحونة بالغضب المتبادل، وكأن مختلف التنظيمات كانت تنتظر مثل الحدث المذكور لتوضح مواقفها الثابتة وتعيد تأصيلها عقائديا وسياسيا.

اختلفت القوى الإسلامية في الجزائر على فكرة الانتخابات قبل انقلاب السلطة على نتائجها وتوزعت إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية، الأول، الجماعات المسلحة التي رفضت إضاعة الوقت مع نظام لا يقيم أي اعتبار للإنسان، ودعت إلى إطاحته بالقوة. الثاني، الجماعات المعتدلة وتمثلت في حزب «النهضة» الإسلامي الجزائري وحركة «حماس» الجزائرية وكانت تطالب بالحد الأدنى من الديمقراطية حتى لا تقلق السلطة وتخاف من حرية الناس؛ لأن المطلوب إعادة تنظيم التعددية بالتوافق مع الدولة وليس الإطاحة بها. الثالث، تيار «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وهو الغالب والأكثر شعبية وضم مختلف القوى المتضررة من نظام حكم الحزب الواحد وتسلط الأقلية السياسية وطفيليات الدولة وجنرالاتها على الناس.

شكل تيار «الجبهة الإسلامية» قوة إنقاذ للشعب الجزائري ونجح في كسب مختلف قطاعات الناس، وتمكن من عزل السلطة ومختلف القوى الإسلامية سواء تلك التي تدفع نحو الجهاد أو تلك المعتدلة التي تغلّب أسلوب التفاوض وتتفهم مخاوف النخبة الحاكمة.

راهنت «الجبهة الإسلامية» على الديمقراطية والطريق البرلماني للوصول إلى السلطة، وربما مصادرتها، معتمدة على جماهيريتها وأكثريتها وثقة الناس بها ونقمة المتضررين من حكم الحزب الواحد، وطفيليات الدولة. ووصل رهان جبهة الإنقاذ إلى حد التهور فلم تلحظ دور القوى المستفيدة من النظام وسيطرتها على أجهزة الدولة وأدوات قمعها، ولم تنتبه إلى انعكاسات التجربة في محيطها الإقليمي (تونس، المغرب وليبيا) ولا إطارها المتوسطي ومخاوف دول جنوب القارة الأوروبية من جارها الجزائري (الإسلامي).

بسبب مبالغة جبهة الإنقاذ في رهانها على الديمقراطية المجردة من كل مراكز القوى التي شكلها حكم الحزب الواحد ونشوء «نخبة» عسكرية مستفيدة من ثروات الجزائر وطاقاتها تشكلت تيارات تتجاذبها المواقف النظرية بين متخوف من نجاح الجبهة في الانتخابات والمترتبات الدولية والإقليمية والمحلية المحتملة، وبين دافع لمواصلة التجربة بغض النظر عن تفاعلاتها، وبين متردد في قبول الخيار الأول والثاني.

وسط الاضطراب المتصاعد بين تيارات جبهة الإنقاذ شكّل الشيخ الشاب علي بلحاج ظاهرة مركبة تجمع مخاوف التيار الأول وقلق التيار الثاني، وتأرجحت مواقفه بين تأييد الشيخ المخضرم والمجرّب عباسي مدني الذي راهن على اللعبة الديمقراطية وثقة الشعب به وبين تردد القوى الحذرة في قبول المبدأ نفسه وتخوفها من انقلاب السلطة على النتائج إذ جاءت لمصلحة جبهة الإنقاذ.

لم يبدأ الانقسام في تقويم تجربة «الديمقراطية» الجزائرية بعد إخفاقها وانقلاب نخبة الدولة على خيار المجتمع، بل شق طريقه بين صفوف القوى الإسلامية قبل خوض التجربة وحصول الصدمة (الانقلاب العسكري واعتقال النواب).

كان للصدمة دويها الكبير ليس على القوى الإسلامية في الوطن العربي بل على مختلف القوى السياسية العربية التي انقسمت بدورها بين مؤيد لحق الإسلاميين في تسلم السلطة شرط القبول بتداولها السلمي، وبين رافض لذاك الحق وداعٍ لاعتماد أسلوب الاستئصال ولو كلف الأمر سقوط مئات آلاف القتلى والجرحى وتدمير اقتصاد البلد ومصادر ثرواته، وهو ما حصل.

يصف رئيس حركة «النهضة» الجزائرية عبدالله جاب الله الوضع الذي آلت إليه الصدمة الديمقراطية في محاضرة ألقاها في لندن في 1 أبريل/ نيسان 1996 إذ يقول: «بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991 بدأ التآمر على الحقوق والحريات العامة الفردية والجماعية وأخذ صورا شتى بهدف تفريغ وسائل ضمان الممارسة الديمقراطية من محتواها الحقيقي، والطعن في قداستها، وتوفير الشروط التي تسمح بإقامة ديمقراطية نخبوية محصورة في فئة من الناس، وفي نوع واحد من المثقفين، فتم إلغاء المسار الانتخابي، والتجميد العملي للدستور منذ انقلاب 11 يناير/ كانون الثاني 1992 وصدور المرسوم التشريعي رقم (92 - 03) في 30 سبتمبر/ أيلول 1992 والمتعلق بمكافحة الإرهاب، ووقع الدوس على مبدأ سيادة القانون واستقلالية القضاء، وحرية النشر والصحافة، وحرية تنظيم التجمعات والمسيرات، وشهد الوطن عمليات تدمير للبنية التحتية للاقتصاد الوطني، وعرف الشعب عمليات قتل واسعة، حتى أصبح الحجز والاعتقال والاختطاف والاغتيال والتعذيب والتمثيل والأعمال الانتقامية والتشويه والقمع هو النصيب اليومي للجزائريين والجزائريات، وأصبح التعتيم الإعلامي والتضييق السياسي هو حليف الأحزاب التمثيلية الداعية للحوار من أجل المصالحة الوطنية (...) ونجم عن ذلك تقهقر فظيع في الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي حيث قارب عدد القتلى الستين ألف قتيل، وارتفعت البطالة من مليون بطال سنة 1991 إلى مليون و850 ألفا سنة 1995 أي بنسبة 27 في المئة من عدد العمال. وانخفض متوسط دخل الفرد السنوي من 3000 دولار سنة 1985 إلى 1000 دولار سنة 1995، وارتفع عدد المحتاجين للمساعدة - بحسب مقاييس صندوق النقد الدولي - من 14 مليونا سنة 1992 إلى 20 مليونا سنة 1995، وانخفضت العملة الوطنية بنسبة 66 في المئة في سنتي 1994 و1995، وانخفضت القدرة الشرائية خلال السنتين بنسبة 45 في المئة، وارتفعت المديونية من 25.724 مليار (بليون) دولار سنة 1993 إلى 32 مليار دولار سنة 1995». ويعلق جاب الله مستغربا «والغريب أنهم يعملون كل هذا باسم الحداثة والمعاصرة وإقامة دولة حديثة وقوية». (عبدالله جاب الله، «الجزائر والخيار الديمقراطي»، محاضرة ألقيت في لندن في 1 أبريل 1996).

لم ينشأ الوضع المأسوي الذي وصفه بمرارة رئيس «النهضة» الجزائرية بسبب الديمقراطية كما يحاول البعض أن يفسر بل بسبب استبداد نخبة الدولة وانقلابها على المجتمع وخياراته. وأعطى هذا الانقلاب العسكري تلك الذريعة للجماعات المسلحة لممارسة العنف والسخرية من التيارات الإسلامية التي قررت القبول بالمبدأ الديمقراطي والخيار السلمي لتداول السلطة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2037 - الخميس 03 أبريل 2008م الموافق 26 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً