فكرة الكاتبة والرائدة نورة السداني التي أوضحتها في المقال الذي نشرته في «القبس» مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري تحت عنوان «حبذا لو أعيد مجلس العائلة الذي أسسه صباح السالم» تستحق الدراسة والمتابعة...
فدعوتها لإنشاء مؤسسة خاصة مهمتها إعداد قادة المستقبل من الجيل الجديد من أبناء الأسرة وتدريبهم على أصول الحكم وممارسة السلطة واتخاذ القرار تصب في النهاية لمصلحة تدعيم منهج الديمقراطية والعلاقة مع الشعب من منطلق ترسيخ الركائز وضمان استمراريته وثباته وذلك وفق مجموعة من الأعراف والقواعد والقيم الدستورية... الاقتراح أعاد للذاكرة تجربة الملك محمد الخامس في المغرب وهي تجربة متفردة في العالم العربي عندما أنشأ المدرسة المولوية أو الأميرية، ووظيفتها تنحصر في تكوين ولي العهد والأمراء لكن داخل فصل مكون من تلاميذ ينتقون من أبناء الشعب ليكونوا رفقاء دراسة ولي العهد. وفي الغالب يتحول هؤلاء الرفقاء إلى رجال دولة مقربين يساندون ولي العهد حينما يصبح ملكا يتولى الحكم.
وفي عهد الراحل الحسن الثاني كان أحد مدرسيه في المدرسة المولوية لا يكبره كثيرا في السن وهو الأستاذ عبدالهادي بوطالب أحد مستشاريه الخاصين. وقد اختار الملك محمد السادس بدوره من بين رفقاء دراسته في المدرسة المولوية مساعديه ومستشارين مثل «فؤاد عالي الهمة» وزير الداخلية السابق ومحمد رشدي الشرايبي أحد مستشاريه الخاصين وحسن أوريد الناطق باسم القصر سابقا ووالي منطقة مكناس حاليا...
وفي بداية الموسم الدراسي لعام 2008، دشن العاهل المغربي الملك محمد السادس دخول ولي العهد «مولاي الحسن» للمدرسة الأميرية، وهي المدرسة التي ستتكلف بتعليمه وتربيته. ويتكون القسم الذي سيدرس فيه من خمسة أطفال، وتضم كتابا لحفظ القرآن الكريم وحصصا أخرى منها حصتا اللغتين العربية والفرنسية.
جرت العادة المتبعة منذ إنشاء المدرسة المولوية أن ينتقي الملك أطفالا من أبناء الشعب للدراسة، وقد حافظ الملك محمد السادس على هذا التقليد. وتقع المدرسة الأميرية وسط القصر الملكي بالعاصمة (الرباط)، بحيث تضمن لولي العهد تعليما يجمع بين التعليم المتبع في المدارس المغربية ثم برامج التعليم المتبعة في مدارس أجنبية وخاصة الفرنسية، مع حرص كبير على دروس دينية وخاصة حفظ القرآن.
ويشرف حاليا على إدارة هذه المدرسة مسئول سياسي في حزب «التجمع الوطني للأحرار» يدعى عزيز الحسين، وقد التحق بهذا المنصب منذ أسابيع. وكان الحسين وزيرا «للوظيفة العمومية» أيام حكومة رئيس الوزراء الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي ثم شغل منصب سفير المغرب في دولة الإمارات العربية المتحدة.
التقليد المغربي خاصية غير معمول بها في الدول ذات الأنظمة الملكية والوراثية في العالم العربي، فأبناء الحكام والأمراء والملوك يدرسون في مدارس مختلطة لكنها ذات مستويات عالية ومنهم من التحق بكليات محددة كالكلية الإسلامية في عمان أو كلية فكتوريا بالإسكندرية، وهؤلاء أبدوا حرصا شديدا على أن يلتحقوا بكلية سانت هيرست في بريطانيا أو الجامعات الأميركية والبريطانية وإن كان البعض درس في الجامعات الأميركية في بيروت والقاهرة.
التحصيل العلمي ينظر إليه من زاوية التأهيل العالي لرجالات سيتولون مواقع قيادية بالدولة مستقبلا وهو ما يطرح السؤال: إلى أي حد ستؤثر المدرسة والجامعة على شخصية الدارس، وما هي قدرة هذه الجامعة على صقل وتكوين شخصية قيادية بمواصفات تؤهلها لمناصب عليا بالدولة التي ينتمي إليها؟
وهل الجامعات ذات السمعة والتاريخ الأكاديمي العريق تضع مفكرين وقادة بالعمل السياسي، أم إن المدارس الخاصة على النمط المغربي أكثر جدارة ومسئولية، ولاسيما أنها تضع مناهجها وأساتذتها وتدريبها على تكوين شخصية مؤهلة للحكم وهذا هو الفرق بين الحالتين؟
محور الفكرة يدور حول مستوى التأهيل ونوعيته والثقافة التي سيتأثر بها، وعن أي ثقافة هي تلك؟، فالإنسان أيّا كان هو نتاج لما يرثه من أسرته وآبائه وما يكتسبه من البيئة التي تحيط به، فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها كما يقول المفكر أحمد أمين في كتاب «حياتي»...
تبقى الأرضية الجامعية الأكثر تأثيرا في الهوية الثقافية؛ فالجيل الذي درس في الجامعات المصرية على سبيل المثال حمل جزءا من ثقافة وشخصية هذا الرجل، فالصورة تنسحب على ما أنت فيها من مكونات تعليمية وهؤلاء الذين ذهبوا للقاهرة أو الإسكندرية صار هواهم مصريا والشيء نفسه على من درس في بغداد أو بيروت، فهم أصبحوا جزءا من ثقافة بيروت وبغداد وهم إلى حد بعيد يمارسون حياتهم وفقا للنمط الثقافي والتعليمي الذي نالوه، حتى أن البعض يصير العالم عنده بغداد أو بيروت، فإذا أراد أن يقرأ يبحث عن الكتاب المصري، وإذا رغب بخادمة يحبذ أن تكون مصرية وهكذا تصبح الحياة مأخوذة بالمكون الأساسي للشخصية وهي المرحلة الجامعية...
هؤلاء عندما يعودون إلى أوطانهم ينقلون ثقافة البلد الذي درسوا فيه وتعلموا بجامعاته، تصبح متعتهم التواصل مع هذه العاصمة أو تلك ويعمل على إيصال ثقافة المجتمع البغدادي أو القاهري إلى الوسط الذي يعيش فيه... تأثروا كأشخاص وهضموا تاريخ وثقافة هذا البلد وبات لسانهم يرطن حتى باللهجة التي أخذوها خلال فترة دراستهم...
هناك أجيال من المثقفين وأصحاب الفكر والقياديين في المجتمع الكويتي درسوا في القاهرة وبيروت وبغداد وكذلك الأمر في لندن التي لازمت مراحل الخمسينيات والستينيات، هؤلاء اكتسبوا ثقافات مختلفة ومناهج تعليمية مختلفة أيضا بحيث صار الفرز بين المجموعات، كأن تقول مجموعة الدارسين في مصر ومجموعة الخريجين من بغداد، أو مجموعة بيروت ومجموعة لندن لتدخل بالثمانينيات مجموعات أخرى من باريس وأميركا على الأقل في العشرين والثلاثين سنة الماضية، هذا التنوع والتمازج بين الثقافات العربية والغربية انعكس على مستوى الأداء القيادي لتلك المجموعات بعد أن توزعوا في مواقع العمل والمناصب... وعلى دور الكويت الثقافي والسياسي من خلال النخب والهيئات المدنية وغيرها من القطاعات... حصيلة هذا التنوع أنتج ثقافة كويتية هي مزيج من الثقافة العربية والأجنبية ساعدت بانفتاحها على الانتقال من مجتمع البداوة إلى مجتمع التجارة والدخول بهما إلى ممارسة العمل السياسي والمدني بإطار مؤسسات صيغت بوجود دستور ينظم أسلوب العيش والحياة وبقوالب جديدة لم يؤخذ بها من قبل مجتمعات مجاورة في الخليج العربي.
رسم هذه الصورة يتوقف عند حدود التسعينيات وما استتبع ذلك من تبدلات وتغيرات بالمفاهيم السائدة، ولاسيما في ظل المعلومة والاتصالات وثورة المعلومات التي قلبت الدنيا رأسا على عقب وجعلت خصوصيات المجتمعات في مهب الريح وهو ما يستدعي العودة إلى تأصيل البدايات وتحصين الذات والهوية بشكل عقلاني وهادئ دون انقطاع من الجذور وقفز على المكونات الحقيقية لثقافة المجتمع ومحركاته الأساسية...
سيكون من المفيد العمل على دراسة حجم المبتعثين للدراسة بالجامعات بالخارج والتغيرات التي رافقت هذه العملية من الخمسينيات وإلى اليوم للوقوف على الفروقات وما هي التأثيرات التي من خلالها يمكن التعرف على البيئة العلمية والثقافية والسياسية للمجتمع وما أحدثه من تأثيرات..
العدد 2293 - الإثنين 15 ديسمبر 2008م الموافق 16 ذي الحجة 1429هـ