عندما يُسرَدُ التاريخ الحديث لخارج المنطقة العربية أو لجوارها أرى زعامات وأحداثا تشكّلت بها (ومن خلالها) مصائر البلدان. في الشرق أرى العملاق الهندي فأستحضر شخوصه... لال جواهر نهرو الذي ارتبط اسمه بحركة عدم الانحياز، وبهادر شاستري الذي وقّع مع باكستان إعلان «عدم الحرب» في طشقند، وآنديرا غاندي التي قادت عملية اقتحام المعبد الذهبي لإيقاف الهجمات البندرانوالية السيخية ضد الهندوس في إقليم البنجاب، أو إيتالي بيهاري فاجبايي الذي رفع راية الحقوق الاجتماعية والدفاع عن المرأة. وعندما أنظر إلى الغرب أرى الديمقراطيات «الشمالية» المستقرة، فأقرأ لكسمبورغ كأصغر دولة في أوروبا (2586 كم) لأجد ديمقراطيتها تمتد إلى العام 1868، ثم أنظر إلى حاضنتها الأوسع حيث الاتحاد الأوروبي الذي تصيّر كمشروع اتحاد نوعي، تنتقل فيه الرغبات القومية إلى مؤسسات ذات هوية أعلى تُراعى فيها مصالح الدول السبعة والعشرين من دون أن تستغرق تلك الدول في هموم أقطارها كآحاد.
هذه المشاهدة لما جرى ويجري في الشرق أو الغرب تُحيلني لإعمال النظر في واقع العالم العربي، الذي لم يهنأ لا بالزعامات التاريخية ولا بالمشروعات الوطنية الرائدة منذ الاستقلال إلاّ ما نذر. وبين ظِفْري الاستقلال والحاضر المُعاش تحولت تلك الأنظمة العربية إلى صيغة أخرى من نماذج الحكم الضامن لاستمرار حدّين مزدوجين يتعلّق الأول ببقاء العروش والكُروش مهما كان الثمن، والآخر يتعلق بالمحافظة على حدّ الكفاف الأدنى من الماء والكلأ وحرية الكلمة لشعوب تلك الدول. في الغالب فإن هذه الدول قد جرّبت الدورة الكاملة لحراك الهوية وصراع أنوية النظام السياسي فيه، فهي قد شهدت مرحلة التحوّل من الاستعمار الأجنبي المباشر إلى السيادة ولوازمها على الإقليم وقاطنيه، ثم وبسبب تعسّر الفضاء السياسي وضيق الهامش المتاح فقد ظهرت مناشط متعددة للمعارضة والمحاسبة الحزبية والشعبية حينا بعد حين. والغريب أن هذه الأنظمة قد تعاملت مع معارضتها بمزيد من القسوة والسادية السياسية والأمنية، بل واستمرت في توصيفها بأنها صاحبة مشروعات راديكالية وتصادمية، فبدأت في التعامل معها على أنها خصم لا يقل عن شكل الخصوم المرابطين وراء الحدود، لذلك فليس عجبا أن تتحوّل وزارات الداخلية في كثير من الدول العربية إلى منافس قوي لعمل الجيوش النظامية من حيث السطوة والإمكانيات والموازنات المرصودة.
وجْه الصراع امتد لأكثر خمسين عاما من دون أن تتزحزح القناعات المتقابلة بين الطرفين، لكن التحالف الذي أقسمت عليه الأنظمة العربية مع القوى الغربية «البراغماتية» قد جعل من نَفَسِها في ذلك الصراع أطول وأمنع، وبقائها الطرف الأكثر ضمانة بالنسبة للغرب، وبالفعل فإن الكثير من أوجه المعارضات في بلدان عربية قد وصلت إلى طرق مسدودة في صراعها السياسي، بل إن البعض منها قد تحول بشكل مفاجئ إلى صفوف تلك الأنظمة التي ناكدها وناكفها لعقود، في حين ذهب البعض منهم إلى أكثر من ذلك عندما أصبح مدافعا عنها إلى الحد الذي لم تستطع فيه تلك الأنظمة أن تدافع عن نفسها في مواجهة النقد المتراكم بالحماسة ذاتها، وبشكل مواز لذلك التحول «الشاذ» فقد سعى الكثير من أولئك السياسيين المتحولين إلى إجهاد النفس من أجل استخراج ما يُبرر تلك الانقلابات في المواقف والسياسات، ربما للتخلّص من أزمة الضمير التي قد تلاحقهم والتي قد يُعيّرون بها!.
بطبيعة الحال فإن تلك «النمذجة السياسية» للكثير من أشكال المعارضات في العالم العربي تُذكرني جيدا بما حدث في أوزبكستان بعد الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2000 بين الرئيس إسلام كريموف وبين مرشّح المعارضة عبدالحفيظ جلالوف، فحين سُئِل الأخير من قِبَل الصحافيين عن توقعاته بالفوز في المعركة الانتخابية أجاب: بأنه هو نفسه اقترع لمصلحة الرئيس إسلام كريموف! وربما تكون خطوة جلالوف قبلة أخرى يتعبّد بها «سياسيا» بعض المتحولين من المعارضين في عالمنا العربي.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2036 - الأربعاء 02 أبريل 2008م الموافق 25 ربيع الاول 1429هـ