اختلفت الاستراتيجية النيابية المتبعة في التعاطي مع الاستجواب الثاني الذي تقدّمت به كتلة الوفاق وتغيّر السيناريو المرسوم من قبل رئاسة المجلس وبقية الكتل 180 درجة، حتى أصبح الأمر يدعو إلى التفاؤل لدى البعض. ونلحظ ذلك عندما نطلب من ذاكرتنا أنْ تأخذنا إلى قراءة التحركات التي تمت مع انطلاق الاستجواب الأوّل والتخبّط الذي جاء في المجلس، من تصويت على أصل الاستجواب وإعادته وترحيله إلى دور الانعقاد الثاني، وإثارته من جديد في دور الانعقاد الثاني وولادة الشبهات الدستورية وافتعال المواقف القانونية بين الكتل المعادية لجوهر الاستجواب، ونتيجة كل تلك الجهود أن يبقى الاستجواب في غرفة الانعاش كأوّل مريض ينتظر الموت أو يبقى مجمّدا على الدوام طالما بقت المعادلة 22 و18، فما أسهل أنْ يبقى الموت سريريا في غرفة مزودة بجميع الأجهزة النيابية المستحدثة، ولأجل غير مسمّى وتبقى الإرادات السياسية الإصلاحية معطلة مع جمود موقف الاستجواب الأول والبقية تأتي تباعا.
الاستجواب الأوّل تعطل المجلس عدة جلسات؛ لكون موضوع الاستجواب لم يدرج على جدول الأعمال فكان جدول الأعمال مربط الفرس والسبب في شل حركة المجلس. والاستجواب الثاني نجد بأنّ الاستجواب مدرج على جدول الأعمال لتفادي شل حركة المجلس من جديد، ولكن الإحالة هذه المرة تكون سيّدة الموقف، فاختيار اللجنة المحال إليها الاستجواب وهي لجنة الخدمات غير صحيح وحركة مقصودة لوأده، بلا مقاومة لكون الوفاق تمثل أقلية فيها.
فلا شيء على أرض الواقع يستدعي التفاؤل في ظل وجود مجلس مكبل بالقيود الداخلية والخارجية، في اللائحة الداخلية وفي تعاطي النواب مع الملفات المطروحة، وقيود شخصية وقيود من الحكومة. وهناك أيضا حزمة من الضغوط والإملاءات الخارجية، وهناك أيضا إرادات مسيرة، وإيقاعات مرسومة بأوزان محسوبة، وأدوار موزّعة ومتفق عليها مسبقا، وإجادة تامّة للعب في الخفاء والناس نيام وعلى المكشوف من دون حياء أو خجل. هذا ما نلحظه على الأقل من خلال مراقبتنا للمشهد النيابي.
فحينما تعددت الأسباب في الموت يبقى القلب مقبوضا خوفا من أنْ تكون النتيجة واحدة. الموت السريري المرتقب لكل ما من شأنه أنْ يضيف إضافة نوعية للدور الرقابي والتشريعي، تبقى احتمالات التفاؤل بالمجلس النيابي وبأدائه صفرا، والتشاؤم يبقى سيد الموقف.
وبنظرة أكثر عمقا لما يجري داخل مجلس النواب، نجد أنّ العمل النيابي ومستوى التعاطي والإنجاز لا يستحق من النائب الوطني المخلص والذي يبتغي مصلحة الوطن أنْ يشارك فيه أو أنْ يكون عضوا؛ لأنه بلا عمل وطني منجز بنفس مستوى الطموح، والأهداف المرجوّة والجهود المبذولة. وللدقة والموضوعية أشير إلى أنّ هناك جهودا كبيرة تبذل هنا وهناك أوجزها في الكتل المعارضة، وتشمل جميع الملفات الخدماتية والمعيشية والسياسية، وهناك إصرار كبير منهم على ضرورة تفعيل أدوارهم والأدوات البرلمانية، في حين بقيّة الكتل تركز فقط وفقط على الملفات الخدماتية والمعيشية وتنسى أنّ هناك ملفات سياسية تمثل جوهر العمل السياسي النيابي وتنتظر أنْ تحرك في المجلس، وأنْ تنجز من تحت قبته، وبدلا من التعاون مع الكتل الأخرى التي تحرك الملفات السياسية وتجيد إدارتها، نجدهم يتربّصون بها ويشلّون من حركتها بغباء سياسي فاقع، وفي المقابل نجد هناك حرصا أكبر منهم على خلق العقبات، والبحث عن العراقيل تلو العراقيل لتحول دون تحقيق الآمال والطموح. والأمثلة على ذلك تطول، وذاكرتنا تحفظ الكثير من المواقف التي سجلتها الكتل الأخرى ، ولعلّ أبرزها الإصطفاف ضد لجنة التحقيق في ملف التمييز الوظيفي.
كتلة الأصالة والمنبر والمستقبل والمستقلون أيضا، هم دون شك مسيّرون في ذلك دون إرادة، وهذا ما نفهمه من خلال فلتات لسانهم، فليس التحليل واقعا في الاتهام؛ لأن هناك اعترافات عفوية نلتقطها ونبني عليها. والفائدة لهم طبعا؛ لأن إرادة التسيير هذه تضمن لهم تحقيق بعض المصالح الشخصية وإثبات ذواتهم، فعلى الأقل تضمن لهم البقاء في المجلس وتجدد لهم البيعة، فهم المستفيدون في النهاية. أمّا الوقوف مع التحركات الرامية إلى إعطاء المجلس المزيد من الصلاحيات فبالنسبة لهم تحصيل حاصل، وتخلق لهم عداوات مع الحكومة هم في غنى عنها؛ لكونها تجلب لهم المشكلات وتصعب من مواقفهم.
أصبح تعاطي كتل الموالاة مع الملفات السياسية في المجلس ورقة مكشوفة للجميع، وسهلة قراءتها رغم إدعائهم المستمر بأنّهم يسعون؛ لتحقيق الأهداف الوطنية وقلبهم على المصلحة العامّة وغيرها من تصريحات رنّانة تصلح للدعايات الانتخابية، ولا تأكل عيش في المجلس النيابي. فهم على كلّ حال يتكلمون بخلاف ما يتصرفون، والناس صارت تقرأ تحركاتهم ولا تسمع ما يصرحون به، فليس من الصحة أن نفعّل الأذن فقط في سماع التصريحات المنمقة، فهناك حاسة أخرى غالبا ما تشترك مع حاسة السمع وهي البصر، خصوصا أنّ بوصلتهم باتت تتجه في الغالب لهم ولمصالحهم الشخصية.
إلى أنْ تفيق الناس من غفوتهم وإلى أنْ تصحو ضمائر نواب الموالاة من غفلتهم، وإلى أنْ ينتهي دور «ناطور الوزير» من مهمته، تظل قلوبنا وجلة ومضطربة؛ لأن التجربة النيابية على كف عفريت فلا عمل نيابي بلا دور رقابي وتشريعي، وطالما بقيت المقاومة من داخل المجلس ومن خلال النواب أنفسهم فنحن كل ما نضمنه من خلال القراءة والتحليل سوى «طز العين»، وبدون العين لا نقرأ صح ولا نفكر صح، والبوصلة تضيع، ونحتاج من جديد إلى عين للبحث عن بوصلتنا الضائعة! وهكذا الدورة تستمر في الدوران والرأس يشترك مع الدورة في الدوران، ومن المؤسف بأنّ الدرس لم يفهم ونضطر أنْ نعيد ونزيد لأنّ في التكرار إفادة.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 2036 - الأربعاء 02 أبريل 2008م الموافق 25 ربيع الاول 1429هـ