غادرت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس المنطقة خائبة بعد أن فشلت في إقناع حكومة إيهود أولمرت بوقف سياسة الاستيطان التي تعطل إمكانات تواصل الحوار بشأن «خريطة طريق» تعتقد إدارة واشنطن أنها كافية لوضع قطار «الدولة الفلسطينية» على سكة التسوية العادلة. رايس غادرت خائبة ولكنها أصرت على تأكيد نظرية «الدولة» واحتمال التوصل إليها قبل نهاية العام الجاري. وهذا النوع من التفاؤل الذي دأبت واشنطن على تسويقه لتقطيع الوقت لا يمكن عزله عن محطات زمنية سابقة وعدت خلالها إدارة جورج بوش دول المنطقة بتسوية تضمن الاستقرار وتوفر الحرية والتنمية للشعوب.
الوعود الأميركية التي بدأت «ضخمة» و «كبيرة» في مطلع عهد بوش أخذت تنكمش وتتراجع سنة بعد سنة إلى أن وصلت في العام الأخير إلى حد التمني على أولمرت بوقف الاستيطان. وأولمرت رد على رايس بتوسيع رقعة الوحدات السكنية في القدس وبناء المزيد منها في 101 مستوطنة منتشرة في الضفة. حتى طلب الرجاء الذي تقدمت به رايس لحكومة أولمرت وتضمن تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين والتخفيف من الحواجز الأمنية والسواتر الترابية التي تعطل حركة الاتصالات والمواصلات بين القرى والمدن فشلت به. وكل ما حصدته رايس في زيارتها الأخيرة أنها استمعت إلى وعد من أولمرت يشير فيه إلى استعداده لإزالة 50 ساترا من أصل 750 حاجزا ترابيا.
«خيبة الأمل» الأميركية التي انكشفت معالمها في أكثر من مكان تطرح احتمالات كثيرة على إدارة بوش في السنة الأخيرة من عهده. ويمكن تلخيصها بنقاط متخالفة ولكنها في مجموعها العام تتصل مباشرة بمستقبل الاستراتيجية الأميركية في منطقة «الشرق الأوسط». وأبرز تلك النقاط هي:
أولا، إعلان واشنطن فشلها في إدارة الصراع بعد أن جاءت النتائج الميدانية تعاكس كل الخطط والبرامج النظرية.
ثانيا، إعلان واشنطن نجاحها في برمجة خططها ميدانيا وبالتالي فإن النتائج التي تحققت تتناسب فعلا مع جوهر الاستراتيجية الأميركية.
ثالثا، كشف واشنطن عن أوراقها السرية في اللعبة الدولية التي تقودها في المنطقة وبالتالي توضيح الجوانب الغامضة في ممارستها السياسية وتعاملها مع الدول.
رابعا، ترسيم حدود الخطوات الحاسمة التي تريد اتخاذها في الشهور الأخيرة من عهد بوش وتوضيح معالم طرق تعتبرها مخارج أو مداخل المنطقة وتحديدا في ملفات العراق وفلسطين ولبنان.
الكلام عن «الخيبة» ليس كافيا لإقناع قوى المنطقة بوجهة نظر أميركية كانت السبب في إنزال المزيد من الكوارث بالدول. وسياسة «الخيبات» التي تتخذ منها إدارة واشنطن واسطة للتهرب من المسئولية لم تعد تنفع لإقناع دول المنطقة أن الولايات المتحدة غير قادرة فعلا بالضغط على حكومة أولمرت لوقف توسيع المستوطنات ولرفع حواجز أمنية وسواتر ترابية. فمثل هذه السياسة الملتوية لم تعد مفيدة لتبرير الفشل بالكلام عن «خيبة». فهل أميركا فعلا غير قادرة أم هي أساسا لا تريد وقف الاستيطان وتوسيعه وليست في وارد الضغط على أولمرت لرفع سواتره وحواجزه حتى يستطيع الشعب المحاصر التحرك في محيطه الداخلي المحتل؟
توضيح الزوايا الغامضة يتطلب فعلا إجابات حاسمة من إدارة احترفت سياسة الخيبات. فواشنطن خائبة من الأوضاع التي آلت إليها أفغانستان بعد سبع سنوات من الاحتلال. وهي خائبة من جار أفغانستان سواء باكستان التي تقع على الشرق أو إيران التي تقع على الغرب. وهي خائبة من العراق وما أدت إليه سياسة التقويض من انهيار للدولة وانفلاش العلاقات الأهلية في بلاد الرافدين. وهي خائبة من لبنان بعد أن أدى عدوان صيف 2006 إلى عزل «الدولة» وتحطيم بناها التحتية وإضعافها محليا. وهي خائبة من فلسطين بعد أن أدت سياسة دعم أولمرت وقبله شارون إلى تحطيم السلطة الفلسطينية وتفكيكها وعزلها وتمزيقها أهليا من الداخل وفتح الطرقات أمام تل أبيب لمواصلة الاستيطان من دون رادع أو رقابة دولية.
خيبات مقصودة!
كل هذه «الخيبات» الأميركية تحتاج إلى شروحات لتوضيح معالم سياسة تسيطر عليها إدارة لم تكشف حتى الآن عن أوراقها السرية في اللعبة الدولية التي تحركها وتقودها في المنطقة. فهل كل هذه الكوارث التي صدعت المنطقة ودولها وشعوبها هي مجموعة «خيبات» أم سياسة مقصودة خططت لها الإدارة من البداية؟ وهل فعلا واشنطن أصيبت بمرض «الخيبات» أم أن ما حصل ميدانيا هو نتاج تصورات مبرمجة مسبقا؟
الأجوبة تفترض احتمالات تتراوح بين «الفشل» و«المؤامرة». والأجوبة مرهونة أيضا بالكشف عن تلك «الأوراق السرية» التي تظهر أحيانا معالمها وأرقامها على طاولات اللعبة الدولية في باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين. من هي مثلا ورقة واشنطن في باكستان؟ وعلى أي ورقة تراهن إدارة بوش في أفغانستان؟ ومن هو حصان البيت الأبيض في العراق؟ وماذا تريد من لبنان؟ ولماذا تدير اللعبة بهذا القدر من الاستخفاف بمصير ومصالح بلاد الأرز؟ ولماذا هذا الكم من السخرية من الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة؟ وماذا تريد واشنطن من وراء سياسة الضحك على الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالإصرار على وعده بدويلة في وقت تتآكل الأرض وتنكمش أمام الزحف الاستيطاني؟ تكرار الكلام عن «خيبات» لا فائدة منه. فهو ينطوي على إجابات غامضة وغير قادرة على إقناع دول المنطقة وشعوبها بأن ما حصل هو مجرد أخطاء في التقدير وقراءة متسرعة لتاريخ المنطقة وثقافتها وقوانينها ومحيطها.
هل ما حصل من دمار هو مجموعة متراكمة من الأخطاء وبالتالي فإن الكوارث غير مقصودة أم أنها غير ذلك تماما؟ هذا السؤال بات يضغط على الإدارة الأميركية لتوضيح الصورة وتقديم أجوبة مقنعة. واكتفاء إدارة بوش بإرسال نائب الرئيس بعد جولة الرئيس، ثم إرسال وزيرة الخارجية بعد جولة نائب الرئيس، ثم توجيه دعوة للرئيس عباس لزيارة واشنطن قبل بدء الرئيس الأميركي زيارته الثانية للمنطقة في أقل من نصف سنة... ليست سياسة ذكية تقنع الناس بوجود اهتمام أميركي بالمنطقة. فالزيارات والجولات تصبح من دون قيمة إذا افتقدت وظائفها السياسية وتفرغت من عناصرها القادرة على الفعل الميداني. والتحرك الذي تعلن عنه واشنطن فترة بعد فترة استنفد طاقاته ولم يعد يلقى ذاك الاهتمام وخصوصا بعد أن تضخمت سياسة «الخيبات» وانتشرت من جبال تورا بورا في أفغانستان إلى جدار الفصل العنصري في الضفة. وخيبة رايس التي انكشفت بعد زيارتها الأخيرة للمنطقة تشير إلى واحدة من مسألتين: أما أن القوة الأميركية في اللعبة الدولية في المنطقة محدودة وهذا هو الحد النهائي الذي تستطيع الوصول إليه، وأما أن الولايات المتحدة تعتمد في سياستها الميدانية على قوى إقليمية ومحلية تسهل لها لعبتها الدولية وتعطيها تلك الذرائع للإعلان الدائم عن «خيبات» متوالية من أفغانستان إلى فلسطين.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2035 - الثلثاء 01 أبريل 2008م الموافق 24 ربيع الاول 1429هـ