البيان الختامي الذي صدر عن القمة العربية في دمشق اشتمل على نقاط تشكل الحد الأدنى من المصالح المشتركة، وهي نقاط ليست جديدة وإنما سبق أن وردت مرارا في صيغ مختلفة في مقرارات عربية تم التوافق عليها في قمم سابقة.
إعادة تأكيد النقاط تعتبر إشارة إيجابية لعدم وجود رغبة عربية في تفكيك مؤسسة الجامعة بوصفها الشكل الأخير لفكرة لاتزال في طور التنفيذ ولم تنجح لأسباب كثيرة في الانتقال من الإطار النظري إلى الواقع العملي.
التشرذم العربي أصبح تقليديا سمة مشتركة لوحدة سياسية تتمثل في لقاءات دورية تؤكد على نقاط تعتبر قاعدة لا غنى عنها لاستمرار مؤسسة الجامعة. وبما أن كل مشروع بحاجة إلى مبرر لوجوده أصبحت القمة السنوية وما يتوسطها من لقاءات دورية من الوسائل العملية التي تعطي وظيفة لفكرة تتعرض سنويا للمحاصرة أو المقاطعة وتخضع دائما للامتحان بسبب التجاذبات الإقليمية والضغوط الدولية.
لا جديد في البيان الختامي لقمة دمشق بعد أن ظهرت مخاوف من وجود مؤشرات تستهدف تعطيل مؤسسة جامعة الدول العربية وتقسيمها إلى محاور إقليمية تتجاذبها معسكرات وهمية يطلق عليها «التشدد» و«الاعتدال». الفرضية المذكورة غير موجودة في الواقع الميداني في اعتبار أن الضغوط الدولية لا تميز بين فريق وآخر في القضايا المشتركة أو تلك النقاط التي تعتبر مركزية في المشروع العربي. وبما أن الولايات المتحدة لا تميز في سياستها العامة واستراتيجيتها الإقليمية وتعاملها التكتيكي مع الدول بين «متشدد» و «معتدل» فمعنى ذلك أن كل القوى أصبحت في قارب واحد. وهذا بالضبط ما يمكن رؤيته من إعادة قراءة البيان الختامي الأخير. فالبيان الدمشقي أكد في ديباجته على التضامن العربي، والأمن القومي، وصيانة المؤسسات، وضمان السيادة، ورفض التدخل. بعدها عطف البيان ديباجته على فقرة تؤكد على ضرورة الحوار لحل الخلافات العربية مشيرا إلى تمسكه بقرارات القمم السابقة وتلك المبادرات التي صدرت عنها. ولفت البيان الدمشقي إلى أهمية تغليب مصالح الأمة العليا كونها تشكل ذاك الغطاء الضروري الذي يضمن التصدي للتدخلات الأجنبية ومواجهة الحملات والتحديات والافتراءات والضغوط الدولية.
قاعدة «توحيد المواقف» شكلت نقطة مركزية في البيان. وعلى رغم أن المسألة ليست جديدة فإن المجتمعين أكدوا عليها مجددا ضمن شروط تحددت في إطارين: الأول صيانة اللغة العربية والمحافظة عليها للتخاطب لأنها تشكل ضمانة للهوية وتحصن الثقافة من الضياع. والثاني تفعيل مشروعات التكامل الاقتصادي وتشجيع الخطوات الهادفة إلى التوصل نحو تكوين سوق عربية مشتركة.
تركيز التوافق العربي على نقطتين اللغة والاقتصاد أعطى إشارة سياسية إلى ذاك التواضع «القومي» في التعامل مع مشروع الوحدة العربية. فالوحدة القومية التي تتطلب عادة الكثير من العناصر والعوامل لضمان وجودها واستمرارها استقرت أخيرا وبعد منعطفات مصيرية قاسية مرت بها الدول العربية على نقطتين مهمتين على رغم تواضع المشروع، قياسا بمراحل الأربعينات والخمسينات والستينات.
اللغة والاقتصاد يشكلان ذاك المشترك المطلوب صيانته من جانب وتفعيله من جانب آخر لا يستهدفان توحيد الدول العربية بقدر ما يمنعان انهيار ما تبقى من وحدة تجمع الدول في إطار عربي. والتأكيد على المسألتين جاء في سياق طرح 15 بندا وردت في البيان الختامي تحت سقف «مواجهة التحديات».
«وحدات» عربية
هناك 15 نقطة جدّد البيان الدمشقي التأكيد عليها وهي: مركزية القضية الفلسطينية، السلام العادل والشامل (القرارات الدولية ومرجعية مدريد)، مبادرة السلام العربية بشرط التزام «إسرائيل» بمبدأ السلام، احتمال مراجعة الاستراتيجية العربية انطلاقا من التقييم المذكور أي التزام «إسرائيل» بمبدأ التسوية الشاملة والعادلة، التأكيد على المصالحة الفلسطينية وتطبيق تلك الاتفاقات التي تضمن الوحدة الفلسطينية، التأكيد على وحدة العراق وضمان سيادته وحماية هويته العربية، التأكيد على المبادرة العربية باتجاه لبنان لصيانة استقراره ووحدته، رفض الضغوط الدولية على سورية وما يسمى بقانون «المحاسبة» الذي صدر عن الكونغرس الأميركي، الحرص على مبدأ التفاوض بين الإمارات وإيران بشأن الجزر الثلاث مع التأكيد على مسألة حق الإمارات في استعادة الجزر، التأكيد على وحدة السودان ورفض التدخل في شئونه بذرائع إنسانية أو غيرها، التأكيد على وحدة الصومال ومنع سياسة شرذمته، التأكيد على وحدة جزر القمر ورفض العبث بسيادتها، رفض العداء للإسلام وما تعكسه موجات الإساءة للمشاعر الدينية، إدانه الإرهاب في كل أشكاله والتأكيد على حق الشعوب في المقاومة دفاعا عن مصالحها، وأخيرا إعلان التمسك بمبدأ جعل منطقة «الشرق الأوسط» خالية من الأسلحة النووية من دون تمييز بين دولة وأخرى.
النقاط التي تضمنها «البيان الختامي» ليست جديدة في مجموعها العام باستثناء التذكير أو إعادة التأكيد على مسائل وربطها بشروط وتحفظات مبدئية. إلا أن اللافت في البيان تلك الإشارات التي تعطي صورة سلبية عن مستوى التراجع الذي أخذ يحيط بالفكرة العربية ومشروع الوحدة. ومجرد المقارنة بين طموحات أمس وظروف الحاضر يمكن الانتباه إلى وجود معضلة بنيوية أخذت تخلخل أسس الحلم العربي بالوحدة القومية أو الإسلامية. فالبيان أكد حرصه على «الوحدة الفلسطينية» و «الوحدة العراقية» و»الوحدة اللبنانية» و»الوحدة السودانية» و«الوحدة الصومالية» ووحدة «جزر القمر». والإشارة إلى ضرورة ضمان تلك «الوحدات» القطرية والكيانية تعطي فكرة سلبية عن صورة واقع عربي بدأ مشروعه في الأربعينات انطلاقا من وحدة شاملة وجامعة من المحيط إلى الخليج لينتهي بعد منعطفات مصيرية ومحطات زمنية إلى المطالبة بصيانة «وحدات عربية» قطرية وكيانية والاحتفاظ بها خوفا عليها من الانهيار والتشرذم.
المسألة إذا أصبحت خطيرة وتثير فعلا القلق على مصير مشروع وحدة بدأ عربيا قبل أكثر من 60 عاما وانتهى كيانيا يطالب الأقطار بالحد الأدنى من التماسك حرصا على وحدة الدولة أو الشعب. وهذه المسألة في المنظار التاريخي تطرح أسئلة مقلقة بشأن مشروع حلم اقتصرت طموحاته، كما ورد في الفقرة المعطوفة على ديباجة البيان، بالإشارة إلى أهمية الحرص على صيانة اللغة وتفعيل اقتصاد السوق.
هذا التطور السلبي بات يتطلب قراءة نقدية لتجربة عانت من ضعف بنيوي وخلل في المؤسسات القومية التي كان يجب عليها القيام بالمهمة التاريخية فانتهت المسألة إلى المطالبة بتثبيت الواقع الراهن مع إبداء المخاوف من إمكانات انهيار الأقطار والكيانات وتفككها إلى أجزاء أصغر في أحجامها ومساحاتها وتكويناتها السكانية.
المشكلة إذا ليست في البيان الختامي الذي صدر عن القمة الدمشقية. فالنقاط التي وردت فيه ليست طموحة في اعتبار أن المسألة القومية باتت تتطلب ليس تطوير عناصر الوحدة وإنما صيانة ما تبقى من قواعد عربية تشكل الحد الأدنى من المصالح المشتركة. وهذا أضعف الإيمان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2034 - الإثنين 31 مارس 2008م الموافق 23 ربيع الاول 1429هـ