ربما نعطي أنفسنا سقفا عاليا من التوقعات الوردية، ونعوّل كثيرا على 6 جنيف، وبعضنا يتخيّل هذا اليوم بأنه نقطة مهمّة جذرية ستحرج “سوءات” النظام السياسي في البحرين، خصوصا بعد الحديث المتكرر عن تراجعات في مسيرة الإصلاح.
الحكومة تدرك أنّ الأمور ليست على هذا النحو الذي تتخيّله أو تتمناه كثير من قوى المعارضة، ولن تصدر من جنيف سوى توصيات مغلظة ربما، والحكومة لم تطبّق حتى الآنَ التوصيات السابقة للمنظمات الدولية. أنا لا أقول أنّ على المعارضة- أو أية جهة أخرى- ألا تستفيد من هذا اليوم، ولكن الأهم ماذا سنستفيد نحن كشعب من بعد هذا اليوم، وماذا سيتغيّر في مجرى حياتنا، هل سنسمع تعهدا بوقف التجنيس السياسي أو التمييز الوظيفي أو التوافق على تطبيق العدالة الانتقالية بشكل جريء؟ هل ستفتح الحكومة نافذة حقيقية للحوار مع الجميع؟
ثمة دلائل مختلفة تدل أنّ الحكومة تعاطت بذكاء حتى الآنَ مع موضوع جنيف، وعلى المعارضة أنْ تتعامل بالذكاء ذاته أيضا، وليكن الحكم بين الجانبين هو قياس ما توافق عليه الشعب مع الحكم في الميثاق وعلى رأس ذلك العدالة الاجتماعية القائمة على المواطنة الدستورية.
الحكومة أعلنت في التقرير للمرة الأولى عن تعهدها بدراسة إصدار قانون يجرّم التمييز العنصري بأشكاله كافة، فضلا عن مراجعة شاملة لعدد كبير من القوانين النافذة واستحداث قوانين جديدة لمواجهة بعض المعوقات والثغرات في القوانين الحالية.
وكان اللافت في التقرير الحكومي الذي رفع إلى جنيف احتواؤه على عشرات التعهدات الطوعية بتطوير أوضاع حقوق الإنسان، وتعهدت المملكة بمواءمة تشريعاتها المحلية مع العهود والاتفاقيات الدولية التي وقعتها، ولم يجف حبر غالبيتها بعد.
الحكومة أكّدت للمرة الأولى أيضا أنها ملتزمة بتأسيس الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان على ضوء مبادئ باريس، فضلا عن وضع خطة وطنية شاملة لأوضاع حقوق الإنسان ووضع آلية بين الوزارات المعنية بحقوق الإنسان بهدف ضمان تطبيق التوصيات الصادرة من اللجان المشرفة على الاتفاقيات الدولية.
صحيح أنّ التقرير الحكومي لم يتطرّق إلى ملف التمييز في البحرين، وهذه علامة مفصلية، ولكن عموما فإنّ التقرير يعتبر خطوة أولى في الطريق الصحيح؛ لأنّ أيّ عاقل لن يصدّق أن أنظمة شمولية ستتحوّل بين ضحية وعشاها إلى أنظمة تتشبث بالديمقراطية، خصوصا أنّ كل الظروف في المنطقة لا تجبر أية حكومة على المضي قدما في خيار الإصلاح الحقيقي الذي ننتظره.
في ظل التوازنات الحالية يبدو أنّ التقرير الحكومي أفضل من التقارير السابقة التي كانت تُحاك في الظلام، فعلى الأقل تمكّن الجميع من رؤية التقرير قبل إرساله إلى جنيف، لذلك من الأفضل أنْ نسأل الحكومة عن جدول زمني لتطبيق تعهداتها الكثيرة، وننتظر منها أنْ تثبت حسن النيّة هذه المرة.
سنكون واهمين إذا علقنا الرهانات على الضغط الدولي، ولنسأل أنفسنا: على مَنْ نراهن؟ فها هو الرئيس الأميركي جورج بوش لا يخفي سعادته من البحرين التي يعتبرها “واحة الديمقراطية في المنطقة”، ويعتبرها التجربة المتألقة في الشرق الأوسط الجديد. وليس معلوما حتى الآنَ توجهات الإدارة الأميركية المقبلة من قضايا الإصلاح والديمقراطية في الشرق الأوسط، ولكن العلاقة الاستراتيجية بين النظام السياسي والولايات المتحدة لن تسمح بأن تمارس واشنطن ضغطا حقيقيا على البحرين ولا أيّ نظام حليف آخر.
لتكن “جنيف” معبرا لواقع جديد على مستوى حقوق الإنسان، ونتمنى أنْ نشهد فصلا جديدا من احترام المواطن وعدم التعدّي على حقوقه السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية... أنا واحد من شريحة ليست قليلة تعوّل كثيرا على وزير الدولة للشئون الخارجية نزار البحارنة (أحد الشخصيات المهمّة والمتزنة في جناح الإصلاح والمشرف على ملف التقرير) لتغيير الصورة النمطية عن الحكومة على صعيد حقوق الإنسان.
لنعلم جميعا أنّ نقاشات 6 جنيف ليست محكمة كما يعتقد البعض، وواثقٌ أيضا أنّ نزار البحارنة لن يقول في جنيف خلاف ما يعتقد، ولا أتوقع أنْ يصدر من هذا الرجل ما ينفي وجود المشكلات والمعوقات والتحديات الأساسية التي تواجه التحوّل الديمقراطي كالتمييز الذي كان أحد ضحاياه يوما ما، وفي كلّ الأحوال فإنّ شمس 6 جنيف ستغرب لا محالة، ولكن الأهم هو ماذا بعد جنيف؟
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2033 - الأحد 30 مارس 2008م الموافق 22 ربيع الاول 1429هـ