أخذت الانتخابات الإيرانية حظّها من الإعلام، وربما زادت في حضورها على الثلاثاء الكبير كأحد التمثلات البارزة للانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن الذي لم يأخذ حظّه منها هو صيغتها المُجرّدة وترقيمها الفعلي خارج سياسات التجيير المضاد، أو ربما ما واكبها من حبر مُسال على ورق أصفر لا يرمي إلاّ إلى تسخيف الحدث بما يتلائم وأحكام الاختزال المُملّة.
ولأنني أشَحْتُ المشهد السياسي الإيراني ما بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الثامنة؛ بات لزاما عليّ أن أستلّ من الحدث ما يكفيه لأنْ يظهر بلا رتوش أو تصنيمات، أو على الأقل تقديمه خارج معارك الخصوم.
الرصد المُحكم قد بيّن أنّ عدد الذين سجلوا أسماءهم للترشّح للانتخابات التشريعية الثامنة في الجمهورية الإسلامية هو 7596 شخصا، حيث كان تصنيف المسجلين بحسب الجنس هو 616 امرأة و6981 رجلا، وقد بلغت أعداد الذين تمّ تأييد أهليتهم 5499 شخصا؛ أي بنسبة 73 بالمئة، في حين بلغ عدد الذين انسحبوا من الانتخابات بعد تأييد أهليتهم 330 شخصا، أما الذين لم تؤيّد أهليتهم بسبب عدم حملهم شهادة جامعية أو بسبب سوابقهم التنفيذية وعدم تقديمهم الاستقالة من منصبهم الحكومي في المهلة المحددة فقد بلغ 408 أشخاص؛ أي بنسبة 5 بالمئة، بمعنى أنّ الذين لم تُؤيّد أهليتهم لأسباب أخرى هم 1689 شخصا؛ أي بنسبة 22 بالمئة، وهو نصف النسبة التي حظرها مجلس صيانة الدستور في الانتخابات التشريعية السابعة التي أجريت في مارس/آذار 2004.
بطبيعة الحال فإنّ الاحتجاجات التي قادها الإصلاحيون ضد قرار مجلس صيانة الدستور هي محل نظر. فالقضية قد تكون (وكما كان يقول هنري كيسنجر عن أزمة حرب الخليج الأولى) «عاطفية أكثر من اللازم.. شخصية أكثر من اللازم»، وربما مُسيّسة أكثر من اللازم. فالرفض الأصلي للأهليّة قد طال بشكل رئيسي أسماء المنضوين في اللجان المركزية لجبهة المشاركة ومنظمة مجاهدي الثورة الإسلامية وحزب التضامن، وهي الأحزاب التي قادت جبهة الثاني من خرداد إلى نقطة افتراق عمودية في نهاية ولاية الرئيس محمد خاتمي الثانية.
أما منتسبو كوادر البناء بزعامة حسين مرعشي ومحمد هاشمي وكرباستشي وروحانيون مبارز بزعامة هادي خامنئي وموسوي خوئينيها وحزب الثقة الوطنية (اعتماد ملّي) بزعامة الشيخ مهدي كروبي فقد مرّر مجلس صيانة الدستور أسماء مرشحيها في الانتخابات باستثناء الأسماء «المشتركة» التي أضافتها الأحزاب الإصلاحية المتطرفة على قوائم اليسار الديني الراديكالي. وما يُدلّل على ذلك الكلام هو أنّ الإصلاحيين لهم واحد وخمسون مرشحا في دائرة طهران وحدها التي تضم ثلاثين مقعدا، وكان بإمكان الناخب الإيراني أنْ يُصوّت لهؤلاء لنيل ثلاثين مقعدا خصوصا أنّ الأحزاب الإصلاحية لم تقاطع الانتخابات، لكنهم لم يظفروا بأيّ منها في الجولة الأولى. كذلك كان لديهم مئة واثنان من المرشحين في المحافظات الأخرى، وكان بإمكانهم أن يحصدوا الأغلبية في مدن قم وجرجان وراميان وسملقان وتربت وفردوس وطبس وسرايان ونهبندان وسربيشه ورودبار وخمين وسقز وسنندج ولاهيجان ولردكان وشيروان وشبستر ومرند وشاهرود وزاهدان وسبزوار وفريمان وسرخس وغيرها من المدن، لكنهم لم يحصلوا سوى على أقل من أربعين مقعدا!
وإذا كان الاعتراض الذي بنى عليه مجلس صيانة الدستور أساسه فيما يتعلق بغير المُؤهلين هو استناده للبندين الأول الثالث من المادة 28 من قانون الانتخابات والمتعلقتين بالالتزام بالإسلام والوفاء للدستور الإيراني؛ فإن الأمر يعني أن الأسباب بالغة الحساسية بالنسبة للنظام السياسي، وتتعلقان بمحورين مزوجين؛ فعندما أحجم المجلس عن تأييد البعض لأسباب دينية وأخلاقية ضمن المزدوج الأول فلا أظنّ أحدا سيقبل أن متعاطيا للمخدرات يُمكن أنْ يكون نائبا في البرلمان، أو أنّ مرتشيا أو صاحب ملف فساد مالي يُمكنه أن يُمثل دائرته في مجلس تشريعي يجترح ما يُؤمّن مصالح الناس والبلد، وهي بالمناسبة شروط قرّرتها الدولة الفرنسية عندما اشترطت في المتقدمين للانتخابات التشريعية أنْ يكونـوا متحليين بـ «الكرامة الأخلاقية». وفي المزدوج المحاذي للأوّل والمتعلق بالالتزام بالدستور فإنني لا أتصوّر بأنّ مجلس صيانة الدستور (أو غيره) يقبل بأنْ يأتي شخص ما ممن له صلات مع مجموعات انفصالية في إقليمي كردستان وخوزستان، أو من له اجتماعات شبه دورية مع منظمات «الناحية الأخرى» حيث صحراء كالفورنيا وإذاعاتها تقاتل النظام الإيراني جهارا منذ ثلاثين عاما... أن يكون ممثلا في البرلمان والبلد يعيش معركة وطنية في أكثر من جبهة وفي طليعتها البرنامج النووي وارتداداته!
ولا أظنّ أن أحدا لا يفهم الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة بإيران، وحجم المناكفات الجارية بجوارها وبداخلها من قِبل خصوم ظاهريين وكامنين منذ انتصار الثورة فيها قبل تسعة وعشرين سنة، وهي ورغم ذلك لم نسمع أنها شرّعت قانونا للطوارئ أو قانونا للإرهاب كالقانون البريطاني الذي استهلّ تعريفاته للإرهاب في مادته الأولى «اللجوء إلي فعل عنيف أو التهديد به بهدف تحقيق مرام أيديولوجية أو دينية أو سياسية»؛ أو كالقانون الاسترالي الذي قرّرت ديباجته في تعريفها للإرهاب «القيام بالعمل أو ممارسة التهديد بقصد فرض مبدأ سياسي أو ديني أو آيديولوجي أو لحمل الحكومة الاسترالية أو حكومة أجنبية أو التأثير عليها علي القيام بأمر ما»؛ أو كالقانون الفرنسي الذي تضمن بدءا من المادة 421 ولاحقها تعريفا مؤصّلا للإرهاب؛ أو كالقانون اليوناني الذي أكّد على أن الإرهاب «فعل يرتكب في ظروف من شأنها أنْ تلحق أذى جديا أو تدمر البنية الأساسية الدستورية أو السياسية»؛ أو كالقانون الأميركي الذي قرّر الأفعال التي ترمي إلى التأثير علي سياسة الحكومة وسلوكها».
إنني لا أفهم بالتحديد لماذا يُصرّ الإصلاحيون ومن خلفهم كثير من الدول الغربية على تجريم الخطوات الإيرانية للحفاظ على الأمن القومي، في حين تُبرّر أعمالها هي عندما يتعلّق بأمنها القومي؟! بل الأكثر انها تمدّ أذرعها العسكرية إلى ما وراء البحار والمحيطات حيث العراق وأفغانستان ومعظم الشرق الأوسط بحجّة تكوين متاريس وجدران صد أمام الخصوم لحماية أمنها القومي!
كيف يحق للجمهورية الفرنسية أنْ تتحوّل العلمانية فيها إلى «قيمة دستورية» وأنّ فرنسا (طبقا لدستور 1958) هي «جمهورية غير قابلة للتجزئة، وهي علمانية وديمقراطية واجتماعية»، في حين يرفض الآخرون أنْ تتحوّل دينية الدولة الإيرانية وولاية الفقيه فيها إلى قيمة دستورية؟! بل ويتمالأ الإصلاحيون المتطرفون ومن ورائهم دول غربية بعينها على منظومة أفكار يعتبرونها مرحلة انتقالية للوصول إلى نقطة إعلان سقوط النظام السياسي الإيراني ومبدأ ولاية الفقيه! ولا يتم الارتقاء بمبدأ الدولة (إسلامية) إلى «أعلى المستويات في تسلسل المعايير» كما هو الحال بالنسبة للعلمانية؟!
لماذا يتذمّر الإصلاحيون ومن خلفهم دول غربية بعينها عندما يصدر حكم قضائي ضد أحد من الهوامش في إيران يُمارس «هواية العبث» بدستورية الدولة وهويتها الدينية، ولا يتذمرون من حكم قضائي يصدر في يوليو/تموز 1997 عندما صادقت المحكمة على حكم يدين شخصا لممارسته التبشير الديني (في قبال العلمانية) أو فيما يتعلق بالحريات عندما صدر حكم في يوليو 1995 عندما اعتبرت المحكمة أنّه لا يجوز لتلميذة أن تتعذر بمعتقداتها الدينية، لأنّ «الاجتهادات تشير إلى أنّ الحريّة الدينية لها حدود في مواجهة مقتضيات العلمانية الملزمة».
الجميع يتساءل: كيف تدير الولايات المتحدة ملايينها الستة والثمانين المرصودة لزعزعة النظام السياسي الإيراني؟ هل يقبضها الإصلاحيون المتطرفون أم غيرهم؟ ثم يستمر السؤال: من كشف اسم أستاذ الفيزياء بجامعة الإمام الحسين (ع) التابعة للحرس الثوري الإيراني البروفسور محسن فخري زادة (47 عاما) ومن وشى للـ (سي آي أي) بأنّ هناك معملا للماء الثقيل في أراك ومعملا للأبحاث في نتنز وآخر في إصفهان؟ وسرّب لها معلومات نوعية من جهاز كمبيوتر محمول يتضمن بعض تفاصيل البرنامج النووي الإيراني كتحديد موازنة الأبحاث النووية و»تحديد حجم المعلومات التي يمكن أنْ يفصح عنها علماء البرنامج في حديثهم مع زملائهم».
إنني لا أتهم هنا الإصلاحيين المتطرفين بممارسة مثل تلك الأفعال القذرة لكنني لا أستبعد عنهم ذلك، لسبب وحيد وظاهر وهو أنهم يمخرون بلا حياء مع ذات النخب التي أنتجتها السياسات الأميركية في المنطقة، ويتأففون من ذات الملفات المُنغصة لواشنطن في عموم الشرق الأوسط كالقضية الفلسطينية والملف اللبناني ومن الملفات التي على شاكلتها وهي في النهاية سلوك سياسي مضاد للأمن القومي الإيراني كما قال بذلك العديد من الإصلاحيين المعتدلين كموسوي خوئينيها والشيخ كروبي. وهنا لا أدري كيف كان على مجلس صيانة الدستور أنْ يتعامل مع هؤلاء غير الذي فعل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2033 - الأحد 30 مارس 2008م الموافق 22 ربيع الاول 1429هـ