مَنْ منكم لا يذكر كبير أساقفة كنيسة كانتربري الإنجليزية روان وليامز الذي أثار جدلا ولغطا محموما كبيرا في بريطانيا عكس حينها الحجم الوبائي لظاهرة الإسلاموفوبيا، وما ارتبط بها من هواجس مرضية معقدة، وذلك ما أنْ طرح علنا دعوته إلى اعتماد نصوص من الشريعة الإسلامية كمصادر للتشريع في القانون البريطاني باعتباره أمرا لا مفر منه؟!
فإلى جانب شجاعة هذا الرجل وثقته بنفسه وثباته في معركة إعلامية تتهمه بالخيانة وتسعى إلى تسقيطه على الأصعدة كافة في أحد أكثر المجتمعات تفاخرا بالديمقراطية والتعددية وحرية التعبير، فإنّ ما يبهرك فيه هو اعتداله ووسطيته وعقلانيته التي لم تفقده أبدا رصانة التزامه بالرسالة المسيحية في مجتمع علماني يفصل بين الكنيسة والدولة!
كما أنك تزداد دهشة حينما تطلع على ما يحظى به من سعة اطلاع وتخصص أكاديمي في مجالات الأحياء واللاهوت المقارن واللغات والفلسفة وغيرها من اختصاصات لا حصر لها، بالإضافة إلى تحركات ميدانية واسعة دعما ونصرة لقضايا عالمية شتى من بينها تصديه للحرب ضد العراق وإعلانه الندم على فشله في إيقافها كما سبق أن ذكرت ذلك «المجلة» في تقرير حوله!
ولعلّ مناسبة الحديث عن شخصية عظيمة ومبهرة وملهمة كالتي يجسّدها كبير أساقفة كانتربري هو من باب التطرق إلى أزمة الاختصاص والتخصص والمعاصرة في الحقل الديني والشرعي في المجتمع الإسلامي التي تعكس في جزئية مفصلية منها أزمة التعليم الديني في مجتمعنا، والذي للأسف كاد أنْ يكون قطبا خلاصيا جاذبا لحشود المتسربين الذين نبذتهم المدارس النظامية والمعاهد والمؤسسات الأكاديمية، ما ساهم في رفد وتغذية تصور عام واقعي جدا مؤداه أنّ التعليم والاختصاص الديني أصبح في غالبه خير مطية لمن لا مطية له، أو بالعامي السوقي هو «ملتقى الفاشلين والهاربين من إخفاقاتهم الدراسية في بعض الأساسيات التعليمية» ولا يمكن أن يتم تأطير هذه المطية وذاك الملتقى مذهبيا وطائفيا إسلاميا!
وفي حالات أسوأ يكون «رجل الدين» و»الشيخ ابن الشيخ» غير ملتحق أساسا بسلك التعليم الديني الأكاديمي، وربما يقتصر نطاق اطلاعه وتحصيله وإلمامه على «حلقات طلب العلم الشرعي» و»أحاديث الوعظ والإرشاد» و»مراكز التحفيظ» وغيرها، وكثيرا ما تورّطوا في مغامراتهم وتوغلاتهم «الشرعية» في باطن الكثير من النصوص المرجعية الدينية، كما أنّ هنالك من رسب وأخفق في التعليم الجامعي ليكافئوه بالخطابة والإمامة والإفتاء الشرعي!
والأدهى من ذلك هو واقع فرض العلاوات والمكافآت التشجيعية على مَنْ يدرس علوم الدين كما لو أنّ هذه العلوم هي امرأة قبيحة صعبة المعشر يثاب زوجها وأخوها وبنوها وأهلوها بدلا من أن يكون التعليم الديني خيارا ذاتيا واجتهاديا واعدا!
ولربما أفضت جميع تلك الحالات إلى أنْ يكون الدين الإسلامي من بين سائر الأديان المقارنة فيما قد يمتاز بخصوصية فريدة بين عدد كبير من «علمائه» و»مشايخه» و»ملاليه» تتمثل في أزمة عدم التخصص والإطلاع أساسا، وأكثر أسباب تعيينهم وتخصيصهم هي أسباب سياسية بامتياز، حتى أن من تحسبهم شحاذين من المتنسكين الهندوس في المجتمع الهندي لا يمكن لهم أنْ يصلوا إلى مثل هذه المرحلة الوظيفية والاختصاصية إلا عبر المرور بسلسلة من التأملات الروحية والجلسات الفكرية الأساسية، فيكون حينها ديننا الإسلامي بخصوصية العرض والطلب، والدين لأجل الكفاف المعيشي، والدين لأجل التسلّق السياسي والوظيفي، كما أصبح الدين في موضة معيّنة لأجل التجنس واكتساب المواطنة!
وبالعودة إلى موضوعة أزمة التعليم الديني الذي ينبغي أنْ يكون تعليما عصريا مواكبا سائر المعارف والقضايا والكشوفات المعرفية بما أنه سيفتح المجال أمام دارسيه مستقبلا للتعامل مع مختلف البيئات والأطوار والمحيطات العميقة، أفلم يعد من المناسب تضمين مناهج التعليم الديني بمقررات حول علم الأديان المقارن وفلسفة الدين والاقتصاد والعلوم السياسية والقانون واللغات العالمية علاوة على فرصة الاطلاع على مباحث أساسية في تراث الفلاسفة المسلمين وعلم الكلام ومهارات الحاسب الآلي إلى جانب التراث الفكري التوفيقي والتقريبي للمثقفين والمفكرين والدعاة الإسلاميين من مختلف المذاهب والفرق الإسلامية.
لو تمت مثل تلك الخطوات المنهجية العملية فستكون حينها خطوات مبشرة للارتقاء بمستوى التعليم الديني وعصرنته، وستفتح أمامه العديد من آفاق الإطلاع الواعدة عسى أن تقتل متوارثات الجمود والضمور النقدي والاجتهادي السائدة والمهيمنة على المشهد رغم أنها تطرد الأكسجين من الدماغ، كما أنها لن تجبر طالب التعليم الديني بعدها وهو يتلقى تلك الحصيلة المعرفية و»المهاراتية» الراقية من أنْ يحبس فهمه وفقه في إطار «موسوعات الجيب» الرائجة حزبيا، وما تحتويه من مناظير إقصائية وتكفيرية وإسقاطات وتنميطات أيديولوجية عمياء مشوشة للذهن، كما أنها لن تحرمه من فرصة الانضمام إلى سوق العمل إذا وجد نفسه في صفوف العاطلين عن العمل بسبب التشبع الوظيفي الديني السائد، فلن نكون مضطرين حينها لابتكار وظائف جديدة كــ»مساعد مؤذن أول» أو «قائم بأعمال خطيب تنفيذي»!
إن ما يبعث على الخيبة والأسى هو أنْ يكون من بين المدافعين والمنافحين عن جمود قوالب التعليم الديني وبقائها خارج إطار ومنطق العصر واعتمادها على التلقين والتلقي الفارغ دون محاورة ومناقشة في ما يقزم من وظيفتها وأهميتها، وأنّ من يدعو إلى «تنقية» التعليم الديني من سائر المعارف والإبداعات والمهارات العصرية الأخرى التي ستشكل خير رافد لطلبته وهم يسعون للمواءمة بين الدين والدنيا وستزيد من نسبة مساهمتهم الفاعلة والإيجابية في مختلف قضايا ومسائل العصر، للأسف إنّ الداعي وراء كل ذلك هو أكاديمي متخصص ولكنه «هداه الله» ظل كغيره يتعامل مع الحقل الديني كما لو أنه «ضيعة» متوارثة أبا عن جد وليس حقلا عاما يهم الجميع!
وهو لأجل ذلك لا يتورّع أبدا عن فرض رؤيته تلك بمختلف أساليب التهديد والوعيد، ومثله في تعامله مع الدين ومع الناس هو كمثل أفراد قبائل «الماساي» الكينية حينما يحاربون مختلف قوافل المواشي باعتبار أنّ جميع مواشي العالم هي من حقهم كما توارثوا ذلك الاعتقاد ومازالوا متمسكين به!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2033 - الأحد 30 مارس 2008م الموافق 22 ربيع الاول 1429هـ