في تسعينيات القرن الماضي شنّت التيارات المحافظة في الحزب الجمهوري الأميركي حملة سياسية ضد السيدة الأولى في «البيت الأبيض». آنذاك اتهم المحافظون الجدد زوجة الرئيس بيل كلينتون بالليبرالية واليسارية؛ لأنها بحسب زعمهم اقنعت زوجها الرئيس بضرورة اعتماد المساواة اللونية في توزيع الوظائف العليا في إدارات الدولة حتى يكون «التوظيف» متناسبا مع التركيب السكّاني للولايات المتحدة.
تهمة «الليبرالية» و «اليسارية» ليست دقيقة، ولكنها جاءت في سياق هجمة إعلامية ضد الحزب الديمقراطي الذي أخذ بالانفتاح على مجموعات عرقية ولونية متبعا خطة إدخالهم في المؤسسات الرسمية بهدف تشجيعهم على الاندماج في الدورة الاقتصادية والهيكلية العامّة للدولة.
آنذاك اعتمد الرئيس كلينتون بتشجيع من زوجته وطاقمه خطة توظيف قضت بتوزيع المقاعد بالتساوي على المجموعات الخمس الأساسية التي يتكون منها النسيج السكّاني للولايات. وأعطت الخطة وظيفة للأبيض الانغلوساكسوني (البروتستانتي) ووظيفة للأبيض الأوروبي (الإيرلندي الكاثوليكي) ووظيفة للأميركي اللاتيني (الهاسبانكس) ووظيفة للأميركي الإفريقي (أو الأقليات) ووظيفة للمرأة.
شكل هذا التوزيع النسبي خطوة نحو تعديل التوازن الذي كان يحتكر سابقا وظائف الدولة العليا بمجموعة أو مجموعتين ويستبعد لأسباب مجهولة مختلف الفئات التي يتكون منها المجتمع الأميركي. وجاءت خطة كلينتون آنذاك في سياق الانفتاح على الداخل المتعدد الأعراق والألوان وإشارة للبدء في الاعتراف بوجود متغيّرات لونية (اجتماعية) أخذت تفرض حضورها التمثيلي في الشارع السياسي والجمهور الانتخابي.
الآنَ وبعد مضي 15 سنة تقريبا على تلك السياسة التوظيفية التي اعتمدها كلينتون خلال عهده بدأت زوجته الطامحة للرئاسة تواجه مشكلة غير متوقعة ومن العيار الثقيل حين وجدت أنّ منافسها الرئيسي على المنصب في الحزب الديمقراطي ينتمي إلى فئة لونية كان ممنوع عليها قبل 45 سنة ركوب حافلة للبيض أو دخول مدرسة مخصصة للأوروبيين فقط.
هيلاري كلينتون أصبحت في موقع صعب حين اشتدّت منافسة باراك أوباما وبات يتمتع بكمية من الأصوات تؤهله في حال فوزه بالغالبية ليكون المترشح الأوفر حظا في خوض معركة الرئاسة من جانب الحزب الجمهوري.
حتى لو فشل أوباما في كسب الغالبية فإنه بات في مكان يسمح له بفرض شروطه أو الضغط على السيدة كلينتون لاختياره إلى جانبها في الدورة المقبلة. فأوباما كسب على الأقل منصب نائب الرئيس؛ لأن تجاهله سيؤدي إلى توليد ردود فعل لن تصب اقتراعيا لمصلحة صناديق الحزب الديمقراطي.
هذا التحوّل في اختيار «النخبة السياسية» لقيادة دولة كبرى ليس مسألة تفصيلية في تاريخ الولايات المتحدة. فالموضوع معقد مهما جرت محاولات لتبسيطه، ويرجح ألا يمر من دون اهتزازات وتفاعلات يمكن توقعها حين تنتقل المعركة إلى الشوط الأخير الذي سيحسم هوية المترشح في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في أغسطس/ آب المقبل. وبغض النظر عن نتيجة الاختيار فإن رياح التغيير الجنوبية بدأت تعصف بالشمال الأميركي وتركيبته وتوازناته. وهذا بحد ذاته يعتبر خطوة تاريخية قاسية لابدّ منها للاستجابة إلى نوع من المتغيرات حصلت ميدانيا على أرض الواقع. والمشهد الذي نراه الآنَ على محطات التلفزة كان من الصعب توقع حدوثه لو لم تحصل تلك المتغيرات اللونية في قشرة المجتمع الأميركي.
الرئاسة وملف التمييز العنصري
أزمة الولايات المتحدة في العقد الجاري ستتركز على ملف الأقليات وتعدد الأعراق والألوان. فأميركا مقبلة في الأيام الآتية على تغيرات سكانية قد تبدل لونها الأبيض الأنغلو-ساكسوني ومذهبها البروتستانتي إلى مجموعة ألوان وأعراق وأخلاط قد تحوّل أميركا إلى دولة كاثوليكية - لاتينية تعيش في وسطها أقليات كبيرة من البروتستانت والأفارقة والآسيويين على أنواعهم (صينيين، كوريين، هنود، فلبينيين... إلخ) إضافة إلى كتلة كبيرة من المسلمين.
ظهرت هذه التغيرات السكانية الجديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945. فقد سبق أن أوقفت الولايات المتحدة تجارة الرقيق (الأفارقة) خلال الحرب الأهلية بين الفيدراليين والكونفيدراليين (1863). إلا أن «القارة الجديدة» استمرت تستقطب جموعا بشرية كثيرة من أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. وتجاوز معدل الفئات اللاجئة والنازحة المليونين سنويا، في الخمسينات والستينات والثمانينات؛ ما رفع عدد سكان الولايات المتحدة 100 مليون نسمة في أقل من ثلاثين سنة وزاد أيضا صعوبة الاختلاط بين الجماعات العرقية والتكتلات اللونية والدينية.
وبعد أن هربت الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر من مشكلة تكاثر «السود» واحتمال تحولها إلى دولة إفريقية، بدأت الآن تبحث عن طريقة للهرب من إمكان تحول «الدولة الجديدة» إلى دولة «عالم ثالثية» من ناحية تكوينها الاجتماعي وتركيبها السكاني. ويتوزع المهاجرون الآن إلى كتل ثلاث (آسيويين ولاتينيين وأوروبيين) بعدما مثل القادمون من أوروبا النسبة الكبرى من المهاجرين إلى الولايات المتحدة. وبين عامي 1955 و1964 تراجعت نسبة الأوروبيين إلى 50 في المئة، ثم هبطت بقوة بعد تعديل قانون الهجرة عام 1965. وتوزع المهاجرون عام 1989 إلى 8 في المئة من أوروبا و29 في المئة من آسيا و56 في المئة من كندا والمكسيك وأميركا الوسطى وجزر الكاريبي. ووصلت نسبة غير الأوروبيين في ثمانينات القرن الماضي في بعض الولايات (كاليفورنيا مثلا) إلى النصف تقريبا (57 في المئة بيض أنغلو-ساكسون) مقابل 43 في المئة من أقليات آسيوية ولاتينية وأفارقة. وتغيرت النسبة من جديد في التسعينات لمصلحة شعوب «العالم الثالث». وتنبهت الإدارة الأميركية متأخرة لاختلاف جنسية الفئات المهاجرة وخطورة الأمر على تركيبة المجتمع وإمكان تحول الأكثرية «البيضاء» إلى أقلية، فأقدمت في العام 1991 على تعديل قانون الهجرة ووضعت شرطا تعجيزيا يلزم كل طالب هجرة تحويل مليون دولار إلى الولايات المتحدة أو توظيفه فيها قبل حصوله على الإقامة (البطاقة الخضراء). ويهدف القانون الجديد إلى تقليص عدد المهاجرين الفقراء من العالم الثالث والاكتفاء بالأغنياء منهم؛ حرصا على «أوروبية» أميركا الشمالية ولونها الأبيض. ويرى اقتصاديون محايدون أن الشرط المذكور هو «مؤامرة» على رساميل البلدان الفقيرة؛ لأنه يشجع «الأغنياء» على نقل أموالهم إلى الولايات المتحدة. ويعتقد الخبراء في الشئون الديموغرافية (توازن الجماعات وتكاثر السكان) أن قانون الهجرة الجديد سيؤخر قليلا تغيير التركيب السكاني للولايات المتحدة، إلا أن جدواه في الأمد الطويل يعادل نسبة واحد إلى عشرة، وأن تركيبة بعض الولايات ستشهد تعديلات وتغييرات في العقد الثاني من القرن الجاري.
هذا الأمر - إذا ما تطور بسرعة في السنوات المقبلة - سيطرح جديا دخول الولايات المتحدة مرة أخرى في تجاذبات عرقية ولونية قد تفتح باب الاحتراب الأهلي بين الجماعات من كل الألوان والأديان. ولن تقتصر الحرب «الأهلية» - إذا ما اندلعت - على البيض والسود أو البيض والأفارقة، بل ستتداخل وتتشابك بين الأفارقة والأسبان واللاتين (الهسبانكس) وأخلاط من آسيا وأوروبا فيما بينهما.
وأخطر ما في هذا الاحتمال المخيف تحول الولايات المتحدة إلى «قنبلة بشرية» موقوتة تشجع على نهوض حركات عنصرية متعددة الألوان والأهداف تستمد زخمها السياسي من قيام تكتلات وتجمعات لونية وعرقية ترفض وجود الآخر إلى جانبها، أو عيش فئة مختلفة في وسطها. وهذا ما بدأت تشهده ولايات شمالية تتمثل في نزوح السود منها (وخصوصا شيكاغو وأوهايو) إلى ولايات الجنوب إثر ارتفاع موجة الاعتداءات العنصرية ضدهم في مدن تلك المناطق.
ذكريات طرية
تَكرار المشهد العنصري في الحاضر ليس مستبعدا إذا استمر «تيار المحافظين الجدد» في إثارة الملف والتذكير بهوية باراك أوباما الإفريقية وهويته «المسلمة» المنسوبة إليه. ومجرد عودة إلى التاريخ يمكن رؤية تضاعيف المسألة العنصرية في مختلف المحطات.
اندلاع الحرب الأهلية الأميركية في العام 1861 لم يأتِ من فراغ أو من دون مقدمات اجتماعية وسياسية أملت على «المؤسسة» المرنة التحرك واتخاذ سلسلة قرارات «برغماتية» تتناسب مع اللحظة التاريخية وحاجات السوق ومخاوف إدارة كتلة البروتستانت الأنغلوساكسون (واسب)، لضبط توازن المصالح تحت سقف الحد المشترك في علاقات المجموعات المختلفة. وأهم العوامل التي دفعت «المؤسسة» إلى التحرك آنذاك خوفها من تكاثر «السود» وتحولهم من «أقلية» إلى «أكثرية» بعدما تحول سبي الأفارقة إلى تجارة مربحة اقتصاديا، وتصاعدت من دون حسيب أو رقيب، وأخذت تنعكس على التوازن السكاني. وانطلقت آنذاك الأصوات تطالب بوقف «استيراد» الأفارقة، ليس حبا في السود وإنما خوفا من انقلاب ميزان القوى السياسي بين الأوروبيين والإفريقيين. وبدأت فكرة «الحرية» و «المساواة» تنتشر في «الدولة الجديدة»، وتحولت إلى تيار يضغط على «المؤسسات» ويطالبها بأخذ قرار حاسم لحماية «البيض» من «الذوبان» في مجتمع إفريقي مستورد بالكامل من القارة السوداء.
آنذاك بدأت «كتلة» السود في الولايات الجنوبية بالتضخم ابتداء من العام 1800، وبلغت نسبة الأفارقة واحدا من كل خمسة أميركيين. ومع ذلك بدا واضحا أن ارتفاع النسبة لن يتوقف عند هذا الحد، بل إن «التجارة» استمرت تزدهر سنة بعد سنة؛ مما زاد من المخاوف؛ لأنه سيعرض أسس «الدولة» للانهيار والتبعثر إذا ما تواصلت العملية من دون قيود.
أصبحت «تجارة العبيد» منذ العام 1521 مصدر رزق وربح لولايات جنوبية عدة. فولاية فرجينيا مثلا كانت تعتمد على زراعة التبغ ثم تحولت إلى «الرقيق» وقامت ببيع 300 ألف افريقي بين عامي 1830 و1860. وفي العام 1860 بلغ تعداد سكان الولايات الجنوبية، التي تعتمد على تجارة الرقيق، 8 ملايين و98 ألفا، بينهم 4 ملايين و204 آلاف أسود. وبلغ عدد تجار البشر في تلك الولايات في العام نفسه 385 ألفا، وكان هناك 46200 مالك أرض (أبيض) يملك كل واحد منهم أكثر من 20 افريقيا.
وتوزع التركيب السكاني للولايات المتحدة في العام 1860 (قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنة) كالآتي: 27 مليون أبيض (كلهم أحرار)، و4 ملايين أسود (عبيد)، يضاف إليهم 488 ألف أسود من فئة «الأحرار»، وهو تركيب كان يتغير باستمرار لمصلحة الجانب الإفريقي بسبب تكاثر السود العددي في الكثير من الولايات.
في هذه الفترة برزت بين عامي 1800 و1861 تيارات سياسية كثيرة في الولايات الجنوبية انقسمت إلى اتجاهات متعارضة بشأن معالجة مشكلة «تكاثر» الأفارقة. وانتقل الانقسام السياسي إلى الولايات الشمالية، التي أخذت تشهد نهضة صناعية تعتمد على استيراد السلع والمواد الخام (قصب السكر والتبغ والقطن) من الولايات الجنوبية، وفي الوقت نفسه مالت نحو «العمل المأجور» بديلا اجتماعيا من «استيراد» السود.
تعددت الآراء في موضوع التعامل مع الافارقة وتمحورت حول اتجاهات ثلاثة: الأول طالب بطرد السود إلى هاييتي أو إعادتهم إلى إفريقيا بذريعة المحافظة على الصفاء «العرقي» للدولة الجديدة، واصطدم هذا التيار العنصري بتجار الرقيق وطبقة ملاك الأرض؛ لأنه - موضوعيا - يطالب بإلغاء دور فئة التجار وشل قطاع الزراعة في الولايات الجنوبية التي تعتمد على تشغيل الأفارقة في الأرض مجانا. الثاني طالب بوقف تجارة الأفارقة للمحافظة على التوازن السكاني للدولة ومنع تكاثر هذه الكتلة في المستقبل، وأيد ملاك الأرض (العقاريون) هذا التيار، إلا أنه اصطدم بمعارضة تجار الرقيق. والثالث طالب بالمساواة وإطلاق حرية السود ووقف تجارة البشر من افريقيا، وقاد هذا التيار الصحافي لويد غاريسون الذي تعد مقالاته، التي نشرها في صحيفته «المحرر»، بداية تبلور فكر حركة تحرير السود. وضغط هذا التيار، الضعيف نسبيا، فكريا من خلال الصحيفة التي باشر إصدارها في بوسطن في العام 1831، على المؤسسة لأخذ موقف إنساني من القضية، إلا أنه اصطدم آنذاك مع الجميع ورأت مختلف الاتجاهات في كتاباته مجرد «هرطقة».
تهمة «الهرطقة» تحاكي كثيرا اتهامات القوى المحافظة في الحزب الجمهوري للسيدة الأولى كلينتون. فالطامحة الآن إلى موقع الرئاسة توجه إليها سهام «اليسارية» و «الليبرالية» لأنها اتبعت في عهد زوجها سياسة توظيف أخذت في الاعتبار الاختلاط العرقي واللوني للمجتمع الأميركي.
إلا أن ظهور أوباما على خط التنافس بدأ يقلب المعادلة وأدخل كلينتون في مزاج انتخابي أكثر اقترابا من الواقع ويعكس إلى حد معين هوية مجتمع بدأ يتغير لونه بعد صراع مرير امتد نحو 150 سنة. فهل يتحقق الحلم الذي تحدث عنه الداعية مارتن لوثر كينغ في ستينات القرن الماضي واغتيل بسببه أم ترتد أحلام أوباما عليه وتتحول إلى كوابيسَ؟
الجواب ينتظر أكثر من محطة. إلا أن الجديد في الموضوع ظهور مؤشرات تدل على بداية تحول في الصورة النمطية للاختيار. وما كان مجرد حلم في الستينات لا يستبعد أن يتمثل الآن على أرض الواقع.
العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ