لعلّ من حسن حظوظ الشعوب العربية أن القمة لم يحضرها كل الزعماء العرب؛ مما أتاح لغرمائهم التفرد تحت الأضواء... وإلا لما استمعنا واستمتعنا بكل هذه الخطب الجماهيرية البديعة!
ولعلّ أبرز الخطب التي ألقيت في قمة دمشق التاريخية وأهمها خطبة الزعيم الليبي معمر القذافي. فقد وجّه كعادته انتقادات لاذعة للوضع العربي. ولأننا نعيش في عصر الديمقراطية والشفافية، فقد قابل الزعماء الآخرون انتقاداته «الخشنة» بروح رياضية عالية وابتسامات دبلوماسية عريضة «كأنهم يستمعون إلى نكات» كما قالت وكالة الأنباء الفرنسية، وإن بدا التجهم على وجوه البعض حين وصل إلى لحيته المقص!
القذافي كان لاذعا في خطبته، إذ قال: «لا يوجد شيء يجمع العرب وقادتهم سوى هذه القاعة التي نجلس فيها»، ووصف الوضع العربي بأنه «صعب جدا ومخيف». وربما أراد أن يخيف الحضور أكثر ويسبّب لهم المزيد من الرعب حين طالبهم بتشكيل لجنة للتحقيق في «مقتل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين»، وحذّرهم بقوله حرفيا: «الدور جاي عليكم كلكم. فصدام كان صديقا للأميركان وأخيرا باعوه... ونحن أصدقاء أميركا وقد توافق أميركا على شنقنا في يوم ما»! ولكن يبدو أن خطته بإرعاب الحضور باءت بالفشل، إذ قوبلت كلماته التحذيرية بالضحكات!
القذافي - الذي دعا قبل شهور إلى قيام دولة «إسراطين»، (أي فلسطين + «إسرائيل») - عاد أمس ودعا «حماس» و «فتح» للعمل في خطين متوازيين، لا يلتقيان ولكن لا يصطدمان، «فهذا خير من الاصطدام». واحتج على اختصار القضية الفلسطينية في أراضي 1967 وخاطب أصحاب الفخامة والسعادة والسمو العرب بقوله: «كيف تقولون عودوا إلى حدود 67؟ هل فلسطين هي الضفة الغربية والقطاع؟ هل كنا نكذب على أنفسنا أم على العالم؟ ما مبرر الحروب والتضحيات والمقاطعات الاقتصادية قبل 1967؟».
القذافي حذّر الإسرائيليين من عدم قبول دعوته في «الكتاب الأبيض» لقيام دولة «إسراطينية» مشتركة قائلا: «إنهم يقولون هذه نهاية (إسرائيل). إذا كان الحل السلمي فيه نهاية (إسرائيل) فليتحملوا الحل غير السلمي. إذا رفضوا هذا الحل فليس هناك إلاّ الحرب، ويقفل باب المفاوضات»... وطبعا لم يكن أحدٌ في القاعة يفكّر في الحرب!
وفي المقابل دعا القذافي «عرب آسيا» المساكين للالتحاق بالفضاء الأفريقي؛ لتشكيل اتحاد يجمع «الثلث العربي» الضائع خارج أفريقيا مع عرب الثلثين (الأفارقة)! وحذّرهم في حال رفض هذا المقترح بأنهم سيجدون أنفسهم «محميات متفرقة».
وفي حملة مصارحة عنيفة خاطب العرب بقوله: «لا شيء يجمعنا أبدا إلاّ هذه القاعة. نحن أعداء لبعضنا، كلنا نكره بعضنا ونتخاصم مع بعضنا ونكيد لبعضنا ونشمت في بعضنا ونتآمر على بعضنا. نحن مخابرات نتآمر على بعضنا»! وختم خطبته التاريخية بقوله: «كرامة العرب راحت، ووجود العرب راح، وماضيهم راح ومستقبلهم راح»! وكشف ورقة التوت الأخيرة بقوله: «العرب لا يستطيعون القتال لا في فلسطين ولا في العراق ولا يستطيعون إدخال قرش واحد؛ لأن من يفعل ذلك يعتبر إرهابيا بعدما جاءوا لنا بهذه التسميات وألزمونا بها».
اليوم ستختتم القمة وينفض السامر وتعود الوفود، والشعوب العربية لا تنتظر منهم قيام «إسراطين» ولا تحرير فلسطين، والله يكثّر خيركم لو استطعتم فقط أن تبعثوا ربطات الخبز وكوارتين الأدوية إلى «عرب غزة» المحاصرين... حتى لو بالتهريب!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ