العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ

قمّة دمشق وما بعدها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أطلقت الكثير من التصريحات السياسية عشية انعقاد القمّة العربية التي افتتحت أعمالها أمس في دمشق. وتركّزت بعض التصريحات على تفسير الأسباب التي دفعت أعضاء في جامعة الدول العربية على مقاطعة القمّة أو المشاركة بها على مستويات متدنية. اللافت في تلك التصريحات أنها ذهبت بعيدا في تصوّراتها ولم تقرأ بدقة تفصيلات الأزمة التي أوصلت المواقف إلى خيارات مسدودة. البعض اتهم الولايات المتحدة بأنها الطرف الذي يقف وراء إفشال أعمال القمّة. والبعض اتهم الإدارة الأميركية بأنها أمرت الدول العربية بعدم المشاركة. والبعض الآخر أعلن عن سروره وسعادته بالمقاطعة والضعف في الحضور بذريعة أنّ الانقسام العربي يقلل من وجود «فيروس أميركي» في القمّة.

كلّ هذا الكلام العام لا يقدّم ويؤخر في الموضوع مادامت صورة الأزمة واضحة في تفصيلاتها على الشاشة السياسية. والاكتفاء بتحميل الجانب الأميركي مسئولية الغياب أو التعطيل أو الإفشال لا يخفي مسئولية الجانب الآخر الذي أسهمت مواقفه اللفظية وتعاطيه السلبي في تسهيل أو تقديم الذرائع للإعلان عن المقاطعة أو الغياب. والحديث عن الولايات المتحدة وسياستها التقويضية في المنطقة ليس جديدا في اعتبار أنّ استراتيجية إدارة واشنطن في عهد «تيار المحافظين الجدد» قامت على فرضيات التفكيك وتقطيع الأوصال. الجديد في الموضوع أنّ هناك مَنْ يحاول فرز الدول العربية سياسيا إلى فريقين: الأوّل قاطع ورفض الحضور. والثاني شارك على مستويات مختلفة. فمَنْ قاطع يمثل السياسة الأميركية ومَنْ شارك فهو رفض الاستجابة للضغوط الأميركية.

التقسيم المذكور يثير فعلا الشفقة السياسية ويدفع نحو السخرية من المستوى المتدني الذي وصلت إليه القراءة في رؤية الحوادث وترابطها. فالقول إنّ مَنْ حضر يُصنف ضد السياسة الأميركية وبانّ مَنْ قاطع يخضع للسياسة الأميركية مسألة مضحكة؛ لأنّها تعتمد التلاعب على المشاعر من دون رادع عقلاني يُحاول تأسيس خطاب بناء على تجارب سابقة وحقائق ميدانية. ومثل هذا التقسيم المثير للعجب يكشف عن وجود خلل في منطق السياسة وخصوصا حين يعتمد المنطق على تحليل يتحايل على الواقع ويتجاهل المعلومات والصور والأرقام.

استغفال الرأي العام العربي لا يعني الاستمرار في الالتفاف عن الحقائق والتغطية على سياسات واضحة في تعاملها مع الإدارة الأميركية. فهناك مثلا الكثير من الدول المشاركة تتمتع بعلاقات ممتازة وفوق الممتازة مع واشنطن. وهناك أيضا بعض الدول الذي شارك في أعمال القمّة يعطي امتيازات خاصة للولايات المتحدة ويفتح لها مطاراته ويسهل للقوات الأميركية بناء قواعد عسكرية ثابتة ومتنقلة. فهذا النوع من الدول شارك في أعمال القمّة ما يعني أنّ مسألة الحضور والمقاطعة تخضع لمجموعة اعتبارات واختبارات لا تتصل بتلك الأوامر والإملاءات التي قيل أن الولايات المتحدة أصدرتها للدول العربية.

منطق السياسة يدفع الأمور نحو قراءات أكثر تعقيدا حتى يمكن التوصّل إلى صيغ عربية مرنة تستطيع التكيّف مع المتغيرات التي طرأت على المحيط العربي وينتظر أنْ تشهد الأقاليم في الفترة المقبلة تحولات قد تنجم عن فراغات أمنية من العراق إلى غزّة. تلخيص السياسة بفكرة واحدة وتعليق المواقف على شمّاعة واحدة واستخلاص التحليلات من زاوية ضيّقة تعتبر قراءات محدودة لا تنظر إلى المشهد من آفاق أكثر اتساعا.

كلّ الدول العربية (المشاركة والمقاطعة) تملك علاقات خاصة ومميّزة مع الولايات المتحدة. حتى الدول التي تهاجم في الإذاعة السياسة الأميركية لا تتردد في توجيه رسائل الود وتعقد دائما لقاءات دورية وعلى مستويات مختلفة وبمسميات متنوعة وبذرائع «فنية» و«تقنية» لا حصر لها سواء على درجة معينة من التنسيق أو درجة أخرى من تبادل المعلومات.

الغياب والحضور

التفسير إذا الذي حاول بعض المحللين تقديمه لقراءة أسباب الغياب والحضور هو أقرب إلى التأويل الذي يعتمد ذرائع افتراضية تحتاج إلى تدقيق أكثر للتعرف إلى وقائعها. وهذا النوع من التفسير الذي يعاند الواقع والحقائق لا يقرأ مثلا تلك التصريحات التي تصدر تباعا عن وزراء في حكومة ايهود أولمرت بشأن «المسار السوري» والاستعداد لفتح قنوات مباشرة لمعالجة القضايا العالقة بين الطرفين.

سياسة إخفاء الزوايا والتركيز على زاوية واحدة لا يساعد كثيرا على فهم حركة الواقع وتقاطع المعلومات والاتصالات والمصالح. وهذا النوع من التحليل السياسي الذي يعتمد على تسطيح الوعي والتلاعب بالمشاعر يساهم في التضليل ويساعد على ارتكاب الأخطاء والانزلاق نحو قراءات مبتورة لا تقدّم صورة دقيقة عن واقع معقد ومتداخل في زواياه.

مسألة المقاطعة والمشاركة الجزئية والحضور الرفيع لا يمكن اختزالها في قراءة متسرعة لا تستطيع إلقاء الضوء على زاويا أخرى مقفلة أو مسكوت عنها. فالجوانب المسكوت عنها تلعب أحيانا الدور الحاسم في ترجيح سياسات بهذا الاتجاه أو ذاك. والكلام الذي تسربه الصحافة الدولية والإسرائيلية عن اتصالات مبهمة ورسائل مغلفة لا يمكن إهماله كليا من التحليل وخصوصا أنّ التجارب السابقة قدّمت أمثلة كثيرة ومشابهة للمرحلة الراهنة.

مساء اليوم تختتم القمّة العربية أعمالها في دمشق وسط تكهنات بظهور أعراض جانبيه على صعيد العلاقات بين سورية ولبنان الذي تعاطفت معه بعض الدول المركزية في المنطقة. فالكلام عن احتمال تفجّر الخلافات اللبنانية ارتفعت وتيرته وبات بعض الفرقاء يتحدّث عن سيناريوهات جاهزة للتنفيذ.

احتمال انهيار نظرية «الفراغ الهادئ» مسألة غير مستبعدة في حال تواصلت سياسة تمديد الأزمة وتأجيل عمل المؤسسات الدستورية وتجميد المبادرة العربية. والانهيار لا يعني بالضرورة انزلاق العلاقات الأهلية فورا إلى الاصطدام والفتنة وإنما يمكن مراقبة آلياته من خلال تفريغ الدولة من إمكاناتها (الضعيفة أساسا) في ضبط التوازنات واحتواء المشكلات الناجمة عن تعطيل دورها الاجتماعي والاقتصادي والتنموي.

سياسة تهميش الدولة يولّد طاقات أهلية تلعب دورها الخاص في مناطقها ما يعزز موقعها المستقل ويعطيها شرعية طائفية ومذهبية تبرر لاحقا انعزالها عن دورة الحياة المشتركة بين اللبنانيين. وهذا الاحتمال يحتاج إلى رعاية إقليمية جوارية وغطاء دولي. وحتى يصبح الاحتمال النظري مسألة واقعية فإنه يتطلب تلك التقاطعات الدولية - الإقليمية التي يمكن ظهورعوارضها الجانبية في حال تواصلت سياسة تفشيل المبادرة العربية وتعطليها.

السؤال الذي يمكن التوقف عنده بعد ظهور تشققات في المواقف العربية وعدم اتضاح رؤية مشتركة تعكس صورة موحّدة في القمّة هو: إلى أي مدى وصلت تلك التقاطعات؟ قياس المدى مسألة مهمّة؛ لأنّه يعطي فكرة عن الاحتمالات التي يمكن طرحها بشأن التداعيات السياسية المرجّح انفلاشها في الساحة اللبنانية. حتى الآنَ تبدو الأمور قيد النقاش والتداول. والمسألة في النهاية خاضعة للحسابات الدولية ونصيب القوى الإقليمية من سياسة تبادل المصالح والمنافع. حتى الآنَ الصورة غامضة ولكن ما يُمكن مشاهدته من ملامحها تعطي ذاك الانطباع بوجود نوع من الصفقة تحتاج إلى مراجعات وترتيبات قبل تسويقها في مرحلة ما بعد قمة دمشق.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً