ألقى رئيس أساقفة كانتربري روان ويليامز، الشهر الماضي محاضرة علمية دقيقة في لندن بشأن ما إذا كان يتوجب على النظام القانوني البريطاني أن يسمح للمحاكم غير المسيحية أن تتخذ قرارات بشأن بعض قضايا قانون الأسرة. علما بأنه من المعروف أن بريطانيا لا تفصل دستوريا بين الكنيسة والدولة.
وقد أشار رئيس الأساقفة إلى أن «قانون كنيسة إنجلترا هو قانون البلاد» هناك. بالتأكيد، مازالت المحاكم الكنسية، التي تعاملت في يوم من الأيام مع قضايا الزواج والطلاق، مدمجة مع النظام القانوني البريطاني، حيث تقرر قضايا تتعلق بممتلكات الكنيسة وتعاليمها. اقتراحه الأوّلي كان، لدى الموافقة عليه من قبل جميع الأطراف، والمتطلب الأساسي الجازم بحماية الحقوق المتساوية للمرأة، أنه قد يكون من المفيد والجيد التفكير بالسماح للمحاكم الإسلامية واليهودية بالتعامل مع قضايا الزواج والطلاق.
انفلت زمام الأمور بعد ذلك. وردت نداءات من السياسيين من مختلف الأطياف وكبار شخصيات الكنيسة والصحف الرخيصة، تطالب زعيم ثاني أكبر طائفة مسيحية في العالم بنشر تراجع عما قاله أو الاستقالة. حاول ويليامز خلال السنتين الماضيتين الحفاظ على وحدة الكنيسة الإنجيلية العالمية في وجه القضايا الخلافية المتعلقة بتنصيب رجال دين من المثليين والاعتراف بالزواج بين أفراد الجنس الواحد. إلا أنه لم يتعرض، في تلك المعركة المشاكسة الشموسة، إلى هذا النوع من صيحة الاحتجاج التي أطلقتها إشارته إلى المحاكم الدينية. غني عن القول أن صيحة الاحتجاج ليست ناتجة عن ذكر ويليامز للقانون اليهودي الأرثوذكسي، وإنما كلمة الشريعة هي التي أثارت تلك الموجة العارمة.
قد لا يثير الغضب بشأن إعطاء درجة معينة من الوضع الرسمي للشريعة في بلد غربي الاستغراب من ناحية. لم يحصل أي نظام قانوني من قبل على تعليقات صحافية أسوأ. فبالنسبة للكثير من الناس تثير كلمة «شريعة» معاني رهيبة تتعلق بقطع يد السارق ورجم الزاني واضطهاد المرأة. بالمقارنة، من منا يذكر اليوم ذلك القانون المدني الإنجليزي الذي نال استحسان الكثيرين والمتعلق بإعدام مرتكبي مئات الأنواع من الجرائم بما فيها سرقة أي شيء ولو بلغت قيمته خمسة شلنات أو أكثر؟
من منا يعلم أنه حتى القرن الثامن عشر سمحت قوانين معظم الدول الأوروبية بالتعذيب كمكون رسمي لنظام العدالة الجزائية؟ أما بالنسبة للتفرقة الجنسية، فقد حرم القانون العام المرأة ولفترة طويلة من حقوق الملكية أو الشخصية القانونية بمعزل عن الزوج. عندما طبّق الإنجليز قانونهم على المسلمين بدلا من الشريعة كما فعلوا في بعض المستعمرات، كانت النتيجة مصادرة ممتلكات المرأة المتزوجة التي طالما منحها إياها القانون الإسلامي، وهذا طبعا بعيد كل البعد عن المساواة بين الجنسين.
واقع الأمر أن القانون الإسلامي، عبر معظم مراحله التاريخية، قدم أكثر المبادئ القانونية ليبراليّة وإنسانيّة في أي مكان في العالم. واليوم، وعندما نطبق العقوبات القاسية التي نصت عليها الشريعة في عدد محدود من المحافظات، فإننا نادرا ما نعترف بمعايير البراهين والإثباتات الصارمة الضرورية لتطبيق تلك العقوبات. يتوجب، على سبيل المثال، قبل تطبيق الحكم على الزنا، أن يعترف المتهم أربع مرات، أو أن يوجد أربعة شهود ذوو مكانة جيدة للشهادة على رؤيتهم المباشرة للعملية الجنسية.
النواحي المتشددة في نظامنا القانوني، كالسجن المؤبد لجرائم بسيطة نسبيا تتعلق بالمخدرات، في بعض الحالات، يجري تجاهلها بشكل روتيني. نحن نختار تجاهل ذكر ما حصلنا عليه أخيرا لتحسيناتنا المبدئية لقانون الأسرة. يبدو أحيانا وكأننا نحتاج للشريعة إذ إن الغرب كان بحاجة للإسلام منذ فترة طويلة، كمادة نعكس عليها أفكارنا عما هو رهيب، وكغطاء يجعلنا نظهر بمظهر جيد.
من ناحية أخرى، تعرضت سمعة الشريعة في العالم الإسلامي إلى عملية إحياء غير عادية في السنوات الأخيرة. قبل قرن فكّر المسلمون ذوو النظرة المستقبلية بأن الشريعة قد ولى زمانها وأنها بحاجة إما للإصلاح أو للتخلي عنها. واليوم يقول 66 في المئة من المصريين و60 في المئة من الباكستانيين و54 في المئة من الأردنيين أنه يجب أن تكون الشريعة هي مصدر التشريع الوحيد في بلادهم.
وتجعل الأحزاب السياسية الإسلامية، مثل تلك المرتبطة بحركة الإخوان المسلمين عبر الأقطار، من تبني الشريعة أحد أهم أعمدة طروحاتهم السياسية، وهي رسالة يُسمع صداها في أماكن بعيدة. ففي كل مكان يسمح فيه للناشطين السياسيين الإسلاميين بخوض الانتخابات في الدول الناطقة بالعربية، ينزع هؤلاء لأن يربحوا جميع المقاعد التي يسمح لهم بالتنافس عليها. لقد غدت الحركة الإسلامية المسيّسة بكل صورها، من المعتدلة إلى المتطرفة ببساطة، الأسرع نموا والأكثر حيوية في العالم الإسلامي، كما أن الشريعة هي الورقة الرابحة لديها. كيف إذا أن ما يراه الكثيرون في الغرب على أنه أكثر النواحي غير المحببة والمتخلفة في الإسلام، هو بالنسبة للمسلمين الجوهر النشط النابض والجذاب في الحركة العالمية لإحياء الإسلام؟
بالتأكيد، يذهب التفسير إلى ما هو أبعد من الفرضية المبسّطة بأن المسلمين يريدون استخدام الشريعة لعكس اتجاه الأنثوية والسيطرة على المرأة، وخصوصا أن أعدادا كبيرة من النساء يساندن الناشطين السياسيين الإسلاميين ومُثَل الشريعة.
أحد أسباب ابتعاد وجهات النظر الغربية والإسلامية فيما يتعلق بالشريعة هو أننا لا نستخدم جميعا الكلمة لتعني الأمر نفسه. على رغم أنه من الشائع استخدام كلمة «الشريعة» وكلمة «القانون الإسلامي بشكل متبادل، إلا أن هذه الترجمة الإنجليزية غير الواقعية لا تعبر عن جميع المعاني المتعلقة بما يعنيه تعبير «الشريعة» للمسلم المؤمن. ليست الشريعة، إذا فهمت بشكل صحيح، مجرد مجموعة من القوانين. بالنسبة للمسلمين المؤمنين، الشريعة شيء أعمق وأعلى مستوى، منغرسة بأهداف أخلاقية ما وراء الطبيعة. الشريعة في جوهرها تمثل فكرة أن جميع بني البشر، وكل الحكومات البشرية، خاضعة للعدل أمام القانون.
ويمكن فهم الشريعة في أفضل صورها كقانون ذي مكانة عالية، يحتوي على فروض دنيوية محددة. يتفق جميع المسلمين مثلا، أن الشريعة تنهي عن إقراض الأموال لقاء فائدة، ولكن ذلك لا يضم الاستثمار الذي يجري التشارك فيه بالمخاطر والعائدات، ومنع المسلمين من شرب الكحول، كمثال على منع تقليدي شعائري لا لبس فيه، حتى بالنسبة للذين يفسرون الدين بشكل ليبرالي.
لاشك في أن بعض القوانين المرتبطة بالشريعة قديمة وقاسية، فمثلا الرجال والنساء لا يعاملون بالمثل، من حيث أن الشريعة تجعل من الصعب على المرأة مباشرة عملية الطلاق دون فقدانها النفقة. كما يجعل منع الشريعة للواط، على رغم أن هذا المنع لا يطبق دائما من ناحية تاريخية، يجعل الاعتراف بالعلاقات بين المثليين أمرا يصعب التفكير فيه. ولكن الشريعة تمنع كذلك الرشوة والمحاباة الخاصة داخل المحكمة، وهي تفرض أيضا المساواة في المعاملة بين الفقير والغني، وتدين جرائم الشرف نتيجة القتل عن طريق التطبيق الشخصي للتقاليد، وهو أمر لايزال يمارس في دول الشرق الأوسط، كما أن الشريعة تحمي ممتلكات كل إنسان، بمن فيهم النساء، من المصادرة.
بعكس إيران، حيث يفرض القانون لبس الحجاب ويطبَّق ذلك من قبل الشرطة الدينية، فإن وجهة النظر الإسلامية المسيّسة في معظم الدول الإسلامية الأخرى هي أن الحجاب هو أحد أساليب تطبيق الواجب الديني بتواضع، وهو معيار اجتماعي مرغوب وليس قانونا يتوجب تطبيقه. وليس فرض عقوبة الإعدام على الارتداد عن الدين على أجندة الناشطين السياسيين الإسلاميين الذين ينتخبون دائما.
بالنسبة للكثير من المسلمين اليوم، الذين يعيشون في دول أوتوقراطية ذات حكم فردي، لا تشكل المناداة بالشريعة مناداة بالتفرقة الجنسية والظلامية والعودة إلى الوراء أو إلى العقاب الوحشي، وإنما إلى الصورة الإسلامية لما يعتبره الغرب أكثر مبادئه أهمية في العدالة السياسية، حكم القانون.
* أستاذ القانون بجامعة هارفرد، وينشر المقال بالاتفاق مع خدمة«كومن غراوند» الإخبارية.
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ