تفتتح اليوم في دمشق القمّة العربية أعمالها وسط خلافات عربية - عربية تتعلّق بالشأن اللبناني. فالقمّة بدأت مترنحة بسبب الحضور العربي الضعيف والمشاركة المتدنية مضافا إليها قرار الحكومة اللبنانية بالمقاطعة بسبب ما وصفته بالتدخلات السورية في زعزعة استقرار بلاد الأرز وتعطيل مؤسساتها الدستورية.
القمّة إذا لن تكون على السوية السياسية المتوقعة ويرجّح ألا تتوصّل إلى قرارات ميدانية تعتمد آليات مرنة تساعد على تحويل القناعات إلى خطوات عملية مشتركة. وهذا النوع من النتائج السلبية ليس جديدا. فكلّ القمم العربية كانت دائما تتوصّل إلى قرارات وبيانات ولكن «العبرة في التنفيذ». ومشكلة اللقاءات العربية كانت دائما تبدأ بعد نهاية المؤتمر بسبب فشل الدول أو عدم استعدادها لتنفيذ ما اتفق عليه خلال جلسات القمّة.
قمّة دمشق بدأت خلافاتها قبل انعقادها؛ أي انتهت من حيث كان يجب أنْ تبدأ. وهذا الجديد أعطى صورة مغايرة للفكرة من أصلها. فالأصل أنْ يبدأ الاجتماع تحت سقف تصورات مشتركة ثم ينتهي اللقاء ببيان ختامي ثم تعود الخلافات في التصورات إلى سابق عهدها ولا تنفذ النقاط التي اتفق عليها. الآنَ اختلف ترتيب الحلقات. فالخلافات بدأت قبل الافتتاح وحصلتْ مقاطعة لبنانية للمرة الأولى في تاريخ القمم العربية. وتعاطفت مع المقاطعة الكثير من الدول المركزية وذات شأن في تقرير مصير التوجهات العربية المشتركة. وهذا الاختلاف في ترتيب الحلقات يعطي صورة عن واقع عربي تعرّض للاهتزاز خلال السنوات الماضية وبات يحتاج إلى رؤية خلاقة تبتدع آليات قادرة على احتواء التحديات التي تواجه الأمّة من المحيط إلى الخليج.
ماذا تستطيع أنْ تقدم قمّة دمشق من جديد تحتاجه الأمّة للخروج من عثراتها السياسية والتنموية؟ الترجيحات تشير إلى أنّ البيان الختامي لن يقدّم إضافات نوعية سوى إعادة التأكيد على برامج ومبادرات سابقة بدأت تفتقد حيويتها نتيجة النقص في المناعة القومية وعدم جاهزية الدول على مواجهة التحديات. وهذه الحالة السلبية تعتبر المشترك العربي الوحيد الذي يجمع الدول من محيطها إلى خليجها بما فيها المشرق العربي. وسورية في هذا السياق ليست بعيدة عن المناخ العربي المذكور ولا تعتبر حالة استثنائية أو متميّزة وخصوصا في مجالات الفعل الميداني. والاختلاف في المفردات مجرد تعبيرات لفظية لا تزيد ولا تنقص ما دام التحرك لا يخرج عن السكة الدولية وشروطها الإقليمية وعناصرها الوضعية.
الخطاب العربي بحاجة إلى مراجعة نقدية ولم يعد بالإمكان الاستمرار في سياسة تكرار المفردات ورص الكلمات وتركيب فقراتها من دون عودة إلى تاريخ المنطقة التي مرّت بمحطات زمنية يصعب تجاهلها مهما علت أصوات الصراخ والزعيق وتحميل الآخر المسئولية والتهرّب من المواجهة. فالكلام العام الذي يطرح مجموعة أفكار من المنابر ثم يطوى في الأدراج؛ ليأخذ كل نظام عربي مجاله الخاص سواء بالاتصالات الدولية أو السياسة الإقليمية، لم يعد ذاك السلوك المألوف الذي يلقى التجاوب التقليدي من الشارع.
سابقة سياسية
ما حصل في قمّة دمشق وعشية انعقادها يشكّل سابقة يمكن البناء عليها لتصحيح علاقات كان بالإمكان تجنب تدهورها لو تم التعامل مع الحساسيات الكيانية والإقليمية بعقلية قومية أو أخوية راقية. فالتعامل السوري السلبي مع مؤسسات لبنان السيادية أعطى ذريعة للحكومة لاتخاذ تلك الخطوة الناقصة وإعلان المقاطعة الشاملة. فلو أرادت دمشق فعلا أنْ تشارك بيروت في القمّة لما كانت تصرفت بهذا الشكل وأعطت للحكومة حق الرد. والحكومة بدورها التي تحركت بانفعال سقطت بالمصيدة السورية التي حاكت الخيوط وكانت أصلا لا تريد مشاركة لبنانية في القمّة. وكلام وزير الخارجية وليد المعلّم عن أنّ لبنان خسر «فرصة ذهبية» لا قيمة سياسية له؛ لأنه قيل بعد إعلان المقاطعة لا قبلها. ولو كان المعلّم يريد فعلا أنْ يعطي لبنان «فرصة ذهبية» لكان أقدم على خطوة تصحيح العلاقة عشية القمّة لا بعد انعقادها.
ما هي «الفرصة الذهبية» أو الفضية أو النحاسية (البرونزية) التي خسرها لبنان في مقاطعته؟ يرجّح أنها غير موجودة؛ لأنها لو كانت كذلك لأعطيت قبل انعقاد القمّة؛ لتشجيع لبنان على المشاركة وبالتالي لحصل ذاك الإجماع العربي بالحضور على أعلى المستويات. وهذه النقطة اللبنانية تكشف عن عدم وجود حرص سوري رسمي على حضور كلّ الدول العربية ومشاركتها على أعلى المستويات في القمّة. فالقيادة السورية كانت على علم ودراية مسبقة بهذه المسألة حين اشترطت العواصم العربية تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية حتى تشارك مجتمعة وعلى أعلى المستويات.
بعض الآراء يؤكّد على مقولة إنه لو حضر لبنان القمّة لكان قد حصل على «جائزة ترضية». وهذا البعض لم يوضح تفصيلات تلك «الجائزة» الغامضة والمبهمة مع أنّ المطلوب ليس سرا ولا يحتاج إلى عناء للتعرف إلى مكان وجوده. فكلّ ما هو مطلوب التوجّه إلى المجلس النيابي وانتخاب رئيس للجمهورية والبدء في تفعيل المؤسسات بعد تعطيل دام فترة زمنية طويلة.
هذا السلوك المشوش أعطى تلك الذريعة للحكومة اللبنانية بإعلان المقاطعة انطلاقا من تحليل ضيّق يرى في الحضور مهانة سياسية للإرادة والسيادة والاستقلال وغيرها من مفردات لا تقرأ أنّ مصلحة بلاد الأرز تقضي بالمشاركة ولو على مستوى مندوب أو وزير (ماروني).
الخطأ الرسمي اللبناني تأسس على خطأ رسمي سوري تعمّد السير في حقل ألغام وربما عن قصد لمنع بيروت من التوجّه إلى دمشق. ولكن وقوع لبنان في المصيدة السورية أدّى إلى وقوع دمشق في مصيدة المقاطعة وضعف الحضور وقلّة المشاركة على المستويات العالية. ومثل هذه الفوضى العربية لا تغضب واشنطن وإدارتها.
المسألة إذا مشتركة وتتحمّل مسئوليتها أكثر من جهة. وربما ما حصل كانت القيادة السورية تخطط له حتى ترفع عنها مسئولية العمل العربي المشترك الذي تحتاجه المنطقة لاحتواء ملفات ساخنة تبدأ من الخليج والعراق وتمر في لبنان وتنتهي في قطاع غزّة.
كلّ هذا الملفات يرجّح أن تراجع خلال جلسات القمّة التي افتتحت اليوم. والاحتمالات يمكن قراءة عناوينها من أخبار الافتتاح التي أعطت صورة غامضة عن حضور عربي ناقص كان بالإمكان تجنبه لو تعاملت القوى المعنية بالملفات بمنهجية متقدّمة تحتوي انفعالات واقع منقسم وغير موحّد في رؤيته لقضايا المنطقة العادلة.
لبنان لاشك خسر فرصة سياسية قد تكون ذهبية أو فضية أو نحاسية وربما تكون على شاكلة «جائزة ترضية». ولكن سورية أيضا خسرتْ فرصة كان بإمكانها تفعيلها والبناء عليها لإعادة توحيد قراءات عربية متنافرة وتحتاج إلى مراجعة نقدية تؤسس ذاك الخطاب الواضح في تعامله مع الملفات الساخنة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2031 - الجمعة 28 مارس 2008م الموافق 20 ربيع الاول 1429هـ