مثلما أن مفردة «المعلم» هي مفردة فضفاضة تتعدى حدود المدرسة والمؤسسة الأكاديمية إلى فضاءات اجتماعية أكثر رحابة، فكذلك الحديث عن «المعلم المثالي» وعن ملكاته وسجاياه ومهاراته وقدراته من حيث هو حديث وإن بات أكثر جدلية وتشعبا إلا أنه مازالت في اعتقادي العديد من التصورات والمفاهيم المجتمعية الخاطئة التي ينبغي أن يتم تقويمها وبالتالي تصحيحها، والتي يعزز صدقيتها المصطنعة في غالبية الأحيان نقص وخلل كامن في الفهم الجوهري للرسالة التربوية للمعلم.
كما أن الحديث عن مثالية المعلم أو مثالية المنظومة التعليمية التي يعد المعلم أحد العناصر الوسائطية المهمة ضمن مكوناتها البارزة لا بد وأن يشير إلى أن هذه المثالية تشير في النهاية إلى فن الحوار وفن التواصل مع كافة أطراف المحيط التعليمي، وهناك للأسف العديد من الأمثلة حول التصورات الخاطئة المرسومة لـ «المعلم المثالي» تارة باعتباره صاحب أفضل سجل وصف من الشهادات الأكاديمية ومن المشاركة في الدورات والمؤتمرات التربوية، وصاحب أطول سنين من الخبرة الميدانية والزمنية المتراكمة في الحقل التدريسي من دون أن يتحرك شبرا واحدا للأمام أو الخلف، أو أن يكون هذا المفهوم الذي يخضع كثيرا للابتذال والتأطير في عدد من المسابقات والفعاليات التنافسية الاستعراضية التي تتم داخل حدود المؤسسة التربوية فيكون «المعلم المثالي» هو ذاك عضو المؤسسة صاحب الولاء الأعمى لها إلى حد يفقد من خلال تلك العصمة الولائية ما تبقى له من كينونة فردية، فينهمك في جمع الأموال لإدارة المدرسة أو الجامعة أو المعهد عبر دروس «التقوية» التي أصبحت سوقا سوداء للتعليم ففقدت غاياتها المثلى، وتحولت عبرها الدروس النظامية الأساسية إلى دروس «ترانزيت»!
ولعل أهم النقاط المتعلقة بمثالية المعلم وتميزه النموذجي هي تلك المتعلقة بقدرته على توصيل الخبرة الاجتماعية والعملية الفاعلة في تطبيق أهداف التعليم التي تنطبق عليها بقوة المقولة الخالدة للأديب الإيرلندي جورج برنارد شو «إن التعليم الحقيقي هو كل ما يتبقى في الذهن بعد أن تنتهي المدرسة» والتي استشهد بها خبير التعليم المصري د.حامد عمار في أحد مقالاته القيمة بمجلة العربي في يناير/ كانون الثاني 2000، ولأجل نجاح توصيل تلك الخبرة الاجتماعية والعملية التي تكفل حقيقة التعليم وترسيخ مفاهيمه وتبيئة معانيها لابد من أدوات ومهارات سلوكية معينة رافدة لها، وتتطلب من المدرس ألا ينظر من خلالها إلى الطالب والمتلقي كأنما هو سلة مهمات فارغة ينتظر ملئها وشحنها وإنما هو وجود حساس ضمن عملية تواصل فلا بد من أن يتم كسب ثقته أول الأمر عسى أن يؤدي ذلك إلى تعزيز ثقته بنفسه والاندماج ضمن عملية التعليم المشتركة التي يؤدي فيها كل طرف دوره المنوط به، فالإنجاز التعليمي لا يتحقق له الدوام والاستمرار في بيئة لا يتجانس معها ولا تليق بمستواه أبدا فذاك حينها يكون إنجازا طقوسيا!
كما أن وجود براعة تصويرية تتضمن مهارات الجذب وإيصال المعلومة مهما كان تعقيدها بأبسط طريقة وأسلوب هو أمر لا مناص منه لأجل اكتشاف ومضات التميز ومنحنيات الإعتام لدى كل فرد متلقٍ وبالتالي يكون لا بد من القدرة على التعامل المرن مع مختلف الشخصيات المتلقية بقدر مناسب، ويستلزم مهارات سلوكية راقية لا يمكن أن تندرج ضمنها مفردات واستخدامات سوقية مترادفة كالتي أكسبنا إياها وأقراننا التعليم التقليدي في مدارسنا الحكومية بلهجات متنوعة فريدة مثل «الجزمة» و «المشلكة» و «الجوتي» و «الصرماية» ضمن خطاب المنظومة التعليمية ومحاورها التواصلية مع المتلقين، أو عبارة «ناجح يا ابن الكلب» كما ذكرها العلامة الراحل الشيخ محمد الشعراوي (رحمه الله) في مذكراته عن «يوم إعلان النتائج الدراسية» حينما واجهه بها المعلم، أو أن يفرغ المعلم في الطالب عقده وشواحنه الطائفية والعنصرية!
ومن خلال تجربتي مع الدراسة الأكاديمية في اللغة والأدب الإنجليزي أذكر حينما أراد البروفيسور في محاضرة عن تجربة تيار «Stream of Conciseness» في الرواية الإنجليزية وكيف قام بشرح الطريقة الهندسية السردية البالغة التعقيد والتي تبناها جيل هذا التيار في مؤلفاتهم، فقال ببساطته الهندية المدهشة وهو يناظر أحد الطلبة في القاعة: «إن الأمر أشبه بحالتي وأنا هنا ألقي المحاضرة عليك في حين أنك أنت الطالب تجوب بذهنك عوالم مقاهي «الشيشة» وغرفة النوم وقاعة السينما وذكريات الطفولة وتطلعات المستقبل!».
وإن كان قد تم الاستشهاد كثيرا ببيت الشاعر أحمد شوقي بشأن المعلم «قم للمعلم وفه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا» وذلك في ما لا يعد ولا يحصى، فإن غاية ومضمون «الرسالة» بالنسبة إلى المعلم لا ينبغي أن تحبس في إطار البيت الشعري، فتكون أداة امتياز للمعلم يسلطها لتحقيق انصياع المتلقي وإذعانه وعبوديته المصمتة في ما يقضى على حيوية وفاعلية عملية التعليم التي تبلى بأساليب الطاغوتية والندية، فالرسالة لها تبعاتها وتكاليفها ومسئولياتها التي نجد لها أكثر الأمثلة إشراقا من جوهر تراثنا الإسلامي سواء متمثلة في قوله تعالى «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» (آل عمران: 159) وفي «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» (النحل: 125)، وإن كانت مناهج الدعوة تلك لا ينبغي أن تقتصر على الدعوة الدينية والتعليم الديني كما هي أزمة التعليم الديني في مجتمعنا والتي سنتطرق لها في مقال آخر.
ولعل من بين أبرز ما اطلعت عليه في هذا المجال هو التقرير التربوي البريطاني الحكومي الذي نشرت نتائج توصياته وتوجيهاته هيئة الإذاعة والتلفزة البريطانية (بي بي سي) في موقعها الإلكتروني بتاريخ 16 يونيو/ حزيران 2000، وأثار حينها حال نشره جدلا تربويا عاليا في المجتمع البريطاني، إذ بين التقرير والذي أعد بناء على طلب من وزارة المعايير المدرسية أن العوامل الثلاثة الرئيسية المتداخلة والتي لابد من أن يحيط بها المعلم هي التي تتعلق بمهارات التدريس، والخصائص المهنية، والمناخ الفصلي، وحدد التقرير المهارات التدريسية المرتبطة بالتعليم الابتدائي في ضرورة وجود الطموحات العالية، وفن إدارة الوقت والموارد، وعمليات التقويم والواجبات المنزلية، أما في ما يتعلق بالمهارات التدريسية المرتبطة بالتعليم الثانوي فقد عينها في وجود الطموحات العالية والتخطيط والواجبات المنزلية، كما وأشار التقرير إلى ثلاثة معالم رئيسية ينبغي توافرها في المناخ الفصلي بالنسبة إلى الطلبة وهي قلة المعرقلات والمعطلات والتشجيع على الاندماج والانشغال ووجود الطموحات العالية.
فهل ستكون ثيمة «المعلم المثالي» خاضعة لمسابر النقد العلمي الموضوعي والمراجعة الجدلية الذاتية بحسب متغيرات العصر وشروطه كل مرحلة فاصلة وانعطافة تاريخية أم ستظل محنطة في إطار المنظومة التقليدية الصلدة التي يبدو وكأنما هي عصية على ضرورات التغيير والغربلة؟!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2031 - الجمعة 28 مارس 2008م الموافق 20 ربيع الاول 1429هـ
يا رب
يرب الحكومه المصريه تفكر كده
متميز
الموضوع متميز جدآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ