أراد رجل دنماركي سخي فعل الخير وإدخال البهجة في قلوب الناس البؤساء من أبناء مدينته (سكاندربورغ) جنوب الدنمارك، فوزع بواسطة البريد عشرات الآلاف من الدولارات على الفقراء والمحتاجين «مكرمة» خالصة لوجه الله.
وذكرت مصادر الشرطة الدنماركية التي سارعت بنشر الخبر على مختلف وسائل الإعلام المحلية أن عددا من سكان مدينة سكاندربورغ الريفية قد عثروا في صناديق البريد التابعة لهم على ظروف تحتوي على ورقة نقدية من فئة مئة كرونة دنماركية (نحو 20 دولارا أميركيا) من فاعل خير، مصحوبة برسالة صغيرة «تتمنى لهم الخير والسعادة والرفاه في حياتهم».
ومن الأشخاص الـ265 الذين أبلغوا مراكز الشرطة بحصولهم على هذا المبلغ قرر فقط خمسة أشخاص تسليمها إلى مفوضية الشرطة.
وقال المتحدث الأمني في المدينة: «تبين من خلال التحقيقات التي أجريت بخصوص هذه المكرمة أن المتبرع هو شخص صادق شريف، وأنه قد جمع ثروته بالوسائل المشروعة، وأن حبه لعمل الخير وإدخال البهجة في قلوب أهالي المدينة كان الدافع الأساسي لتقديم هذه المكرمة».
ولم تكشف الشرطة عن هوية الرجل المتبرع ولا عن عمره، واكتفت فقط بالقول: «إنه رجل صادق أمين» وقل نظيره في هذا العصر.
وبقدر ما أسعدت هذه «المكرمة» التي تعتبر بكل المقاييس «النموذج الأمثل» لأعمال الخير المجردة من أي اعتبارات شخصية ومصلحية قلوب من تفاجأوا بها، من فقراء ومحتاجين فهي في الوقت نفسه أدخلت في قلوبنا مشاعر الغبطة والسرور تجاه من يعمل على خدمة الناس ومساعدتهم وشد إزرهم - في أوقات العوز، وأوقات الضيق - من دون أن ينظر إلى أهداف ومصالح معينة ترتبط بإذلال الناس وقهرهم.
وهي إن دلت على شيء فإنها تدل على أن الحياة في زمن الفساد والجشع وأنانية الذات وتسفيه حياة الفقراء والمحتاجين واستعبادهم واستغلالهم في أمور كثيرة لا يحتملون التعامل معها وفقط لكونهم معوزين وغير قادرين على تصريف أمور حياتهم كما يفعل غيرهم من الأغنياء والميسورين الذين لا يُعرَف من أين أتت أموالهم وثرواتهم الهائلة، هل هي من عرق جبينهم أم هي من خلال الكسب غير المشروع؟ مازالت زاخرة بالناس الطيبين والقادرين على فعل الخير وتقديم المساعدة المجردة من المصالح الشخصية.
ولا شك في أن هناك أعدادا هائلة من الفقراء والمحرومين والجائعين الباحثين عن الغداء والدواء والمسكن والملبس من مختلف بقاع العالم ينتظرون ببالغ الصبر كل صيحة وكل قرار يتخذ بشأنهم لإنقاذ أوضاعهم ومآسيهم ومعاناتهم في الحياة سواء كان ذلك من قبل الحكومات أو من خلال المنظمات الإنسانية أو الأغنياء ممن يهمهم فعل الإحسان وأعمال الخير، ويأملون بكل تأكيد أن يستفيق الجميع لمعاناتهم وعلاج أزماتهم بالوقائع الملموسة وليس فقط برفع الشعارات والتباكي على أوضاعهم المؤلمة.
وبحسب الكثير من التقارير الدولية، فإن هناك أكثر من 900 مليون شخص في العالم يعانون اليوم من نقص التغذية وأكثر من مليار إنسان يعانون من الفقر المدقع ومن نقص الدواء ورداءة السكن ومن الإعاقة الجسمية والفكرية التي تسببت بها الحروب والمجاعات وغضب الطبيعة في مختلف مناطق الكرة الأرضية ويعاني أكثر من 600 مليون طفل - معظمهم يعيشون في المناطق الريفية - من نقص في التغذية، كما أن هناك أكثر من 970 مليون شخص في العالم يعيشون تحت خط الفقر، ويلقى نحو 50 ألف شخص حتفهم يوميا نتيجة أمراض ناجمة من نقص الغذاء؛ بسبب الفقر الذي يعاني منه أكثر من مليار شخص في بقاع العالم.
ويمكن قراءة هذه الظاهرة الدنماركية باعتبارها نتاجا لعقود طويلة الأمد من حكم القانون والديمقراطية الحقيقية والتسامح والعيش المشترك وتقاسم الثروة ومراعاة حقوق الإنسان، الأمر الذي مازلنا نفتقده للأسف في مجتمعنا والمجتمعات العربية وغيرها ممن يرفع قادتها خطاباتهم الرنانة عن الديمقراطية والحكم الدستوري ومراعاة حقوق الإنسان في الوقت الذي يمارسون الفساد الإداري والمالي وانتهاك حقوق الإنسان وهم يتحدثون ليلا نهارا عن العدالة والسيادة الوطنية وتوزيع الثروة والمشاركة الشعبية والعيش المشترك وتكافؤ الفرص وهم يحتكرون لأنفسهم وحواشيهم السلطة والمال والجاه، ويظل ذلك فقط لمجرد الاستهلاك السياسي والدعاية والإعلام؛ بقصد التستر على العيوب التي تعتري أنظمتهم ولا يستطيعون التخلص منها.
والسؤال المطروح هو: «هل هناك في الأفق ما ينبئ اليوم أو في المستقبل عن قيام مجتمع العدل والمساواة والتآخي وقبول الآخر؟».
إقرأ أيضا لـ "هاني الريس"العدد 2031 - الجمعة 28 مارس 2008م الموافق 20 ربيع الاول 1429هـ